اعتاد المفسرون عبر القرون على اعتماد أدوات بشرية خالصة في فهم النص القرآني، ترتكز على اللغة وأسباب النزول والقرائن التاريخية والبلاغية. غير أنّ الطفرة التقنية الراهنة فتحت الباب أمام مقاربة جديدة، تحاول الاستفادة من قدرات الذكاء الاصطناعي في التعامل مع كميات هائلة من المعلومات، وتحليلها بسرعة فائقة تفوق قدرات البشر. ومن ثم برزت الحاجة إلى تساؤلات جوهرية: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح عونًا للمفسرين؟ وما أفق إسهامه في تجديد طرائق البحث التفسيري؟

خلفية البحث وأهميته في ظل الثورة الصناعية الرابعة

ناقشت دراسة مقارنة بين التفسير القرآني المدعوم بالذكاء االصطناعي والتفسير البشري (TACIM) التي أعدها الدكتور مراد قاياجان ونشرتها مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الكويت في العدد (141) يونيو 2025 م، هذه التساؤلات، وركزت على إبراز أوجه التكامل الممكنة بين الأسلوبين، دون إلغاء دور المفسر البشري أو نزع الطابع المقاصدي والإنساني من عملية التفسير.

وقد بين الدكتور مراد قاياجان منذ البداية أن الذكاء الاصطناعي قادر على استيعاب المدونات التفسيرية التراثية والحديثة، وتحليلها لرصد أنماط أو نقاط مشتركة وخلافية بين العلماء، ثم إعادة إنتاج خلاصات أو مساهمات يمكن أن تختصر على الباحث وقتًا وجهدًا كبيرين. لكنّه في الوقت نفسه شدّد على أنّ التفسير يظل علمًا إنسانيًا مرتبطًا بخصوصيات اللغة العربية وسياقات الوحي ومقاصد الشريعة، وهذه لا يمكن للآلة إدراكها إدراكًا وجوديًا أو مقاصديًا، وإنما تظل رهينة بالعقل البشري والاجتهاد الفقهي والعلمي.

ومن هنا جاءت الدراسة لتسد نقصًا في الأدبيات المعاصرة، عبر صياغة إطار تفسيري جديد أطلق عليه الباحث اسم: “نموذج المقارنة التفسيرية بين الإنسان والآلة” (TACIM)، بغية دمج التقنية في عملية التفسير دون الإخلال بجوهرها، وليكون الذكاء الاصطناعي خادمًا للعلم الشرعي لا مهيمنًا عليه.

إشكالية الدراسة وأهدافها وأسئلتها البحثية

تتمحور إشكالية البحث حول سؤال محوري: كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يتكامل مع طرق التفسير التقليدية للقرآن الكريم، بحيث يفيد من سرعة تحليل البيانات ويظل في الوقت نفسه خاضعًا للعمق المعرفي والسياقات الشرعية التي يتميز بها المفسر البشري؟

ويتفرع عن هذا السؤال جملة من التحديات، أبرزها:

  • تحديد ما إذا كان التفسير الصادر عن نموذج ذكاء اصطناعي يمكن أن يُعتبر ذا جدوى علمية.
  • تقييم حدود قدرات الذكاء الاصطناعي فيما يتصل بفهم النص القرآني، خاصة في جوانبه العقدية والمقاصدية.
  • استشراف الكيفية التي يمكن بها أن تتوزع الأدوار بين المفسر البشري والآلة، بدلًا من افتراض المنافسة أو الاستبدال.

ولتحقيق ذلك، حدّد الدكتور مراد قاياجان أهدافًا رئيسية تمثلت في:

  • إجراء تحليل مقارن بين التفسير البشري والتفسير المدعوم بالذكاء الاصطناعي وفق معايير متعددة: السرعة والعمق والدقة والاتساق.
  • استكشاف أبعاد التكامل الممكنة بين المنهجين، عبر تحديد مكامن التميز والقصور لكل منهما.
  • رصد أثر الأدوات الذكية على تطوير العلوم الإسلامية وإمكان اجتراح مقاربة تفسيرية جديدة تثري البحث المعاصر.
  • تسليط الضوء على الضوابط الأخلاقية التي ينبغي أن ترافق استخدام الذكاء الاصطناعي في علوم الشريعة.
  • اقتراح نموذج تطبيقي جديد (TACIM) يوفّر خطوات منهجية لتقييم الأداء التفسيري للذكاء الاصطناعي مقارنة بالبشر.

وقد صاغ الباحث خمسة أسئلة بحثية دقيقة تغطي مختلف جوانب الإشكالية:

  • ما دور الذكاء الاصطناعي والفوائد المحتملة التي يقدّمها للتفسير القرآني؟
  • كيف يمكن أن تعمّق المقارنة بين التفسيرين (البشري والآلي) فهمنا للقرآن؟
  • ما الأساليب التي تتيح قياس مستوى الدقة والعمق في التفسير الآلي مقارنة بالبشري؟
  • كيف يمكن أن تؤثر تقنيات الذكاء الاصطناعي المستقبلية على مناهج التفسير التقليدية؟
  • ما إسهامات التفسير المدعوم بالذكاء الاصطناعي مقارنة بالتفسير البشري، وكيف يمكن توظيف هذه الإسهامات لتطوير نماذج تفسيرية جديدة؟

المنهجية البحثية ونموذج (TACIM)

اعتمد الدكتور مراد قاياجان المنهج المقارن (Comparative Research)، باعتباره المنهج الأمثل لمقارنة الظواهر وتحليل نقاط قوتها وضعفها. وانطلاقًا من هذا المنهج، ابتكر نموذج TACIM:

(Tafsir-AI Comparative Interpretation Model)، الذي يقوم على خطوات متسلسلة تضمن عملية مقارنة عادلة بين التفسيرين.

خطوات النموذج

  • اختيار الآيات القرآنية: تم تحديد مجموعة من الآيات المحورية، تتسم بثراء معانيها وكثرة الأقوال حولها.
  • جمع التفسيرات البشرية: شمل ذلك تفاسير كلاسيكية مثل الطبري، الرازي، القرطبي، البيضاوي، وتفاسير معاصرة، لضمان شمول الرؤى.
  • استخلاص الأسئلة التفسيرية: استُنبطت من أقوال العلماء أهم القضايا التي أثارتها الآيات من معاني لغوية، أسباب النزول، دلالات عقدية وتشريعية.
  • طرح الأسئلة على نموذج ذكاء اصطناعي (ChatGPT): حيث طُلبت منه إجابات مترابطة على هيئة فقرات تفسيرية.
  • المقارنة والتحليل: وُضعت نتائج التفسير البشري والآلي جنبًا إلى جنب، وقورنت وفق معايير منها: العمق، الدقة، الاتساق بالسياق التاريخي واللغوي.
  • استخلاص النتائج: جرى تقييم قدرة النموذج على محاكاة التفسير البشري، وتحديد مكامن التطوير المطلوبة.

الجانب الأخلاقي والمنهجي

أولى الباحث أهمية كبيرة للضوابط الأخلاقية في استخدام الذكاء الاصطناعي في التفسير، معتبرا أن التقنية قد تحمل مخاطر منها:

  • التحيزات البرمجية الناشئة عن طبيعة البيانات المدربة.
  • القصور في استيعاب المقاصدية، مما قد يولّد تأويلات ناقصة.
  • قضية الموثوقية، إذ لا يجوز اعتماد المخرجات بلا تدقيق بشري.

ولذلك شدّد على أن استخدام الذكاء الاصطناعي يجب أن يتم في إطار ضوابط شرعية وأكاديمية، مع وجود رقابة بشرية دائمة.


الدراسة التطبيقية (سورة يوسف: الآيات 1-3)

اختيرت الآيات الثلاث الأولى من سورة يوسف نموذجًا للتجربة، نظرًا لثرائها التفسيري وتعدد القضايا التي تثيرها. وهذه الآيات تتناول:

  • الحروف المقطعة “الر”.
  • وصف القرآن بأنه كتاب مبين.
  • بيان نزوله قرآنًا عربيًا.
  • وصف قصة يوسف بأنها أحسن القصص.

المرحلة الأولى: جمع أقوال المفسرين

استعرض الدكتور مراد قاياجان بشكل موسّع أقوال العلماء:

  • الماتريدي: أشار إلى أن الحروف المقطعة أسلوب بلاغي لجذب الانتباه.
  • القرطبي: ذكر أن “الر” قد تكون اسمًا للسورة.
  • العلماء عمومًا: فسّروا “الكتاب المبين” بأنه واضح في رسالته، وقد يكون المقصود به عموم القرآن أو السورة نفسها.
  • تناولوا حكمة نزول القرآن بالعربية، واستشهدوا بآية فصلت (41/44).
  • فصّلوا القول في معنى “أحسن القصص”، ورأوا أنها إما لجمال أسلوب السرد القرآني، أو لخصوص قصة يوسف وما تحويه من عبر.

المرحلة الثانية: صياغة الأسئلة التفسيرية

صاغ الدكتور مراد قاياجان مجموعة أسئلة دقيقة :

  • ما دلالة “الر”؟
  • ما معنى “الكتاب المبين” وهل يُراد به عموم القرآن أم سورة يوسف؟
  • ما سبب تأكيد عربية القرآن؟ وكيف فهم العلماء وجود بعض الألفاظ غير العربية فيه؟
  • لماذا وُصفت قصة يوسف بأنها “أحسن القصص”؟ وما دلالة صيغة المصدر “القصص”؟

المرحلة الثالثة: اختبار الذكاء الاصطناعي

طُرحت الآيات والأسئلة على نموذج ChatGPT. وأنتج النموذج فقرات تفسيرية مترابطة، بين النموذج أن الحروف المقطعة هو أسلوب لجذب الانتباه، وذكر احتمالات معانيها. ,فسّر الذكاء الاصطناعي “الكتاب المبين” بأنه واضح لمن يطلب الهداية، وأنه يوضّح العقائد والأحكام والأخلاق. اعتبر الذكاء الاصطناعي أن كلمة “قرآنًا” قد تشير إلى سورة يوسف خاصة، وبيّن أن نزوله بالعربية لتيسير الفهم، مع تأكيد أن الترجمات تظل تفسيرًا لا بديلاً عن الأصل، كما فسّر “أحسن القصص” بجمالية القصة القرآنية وتفردها، وربط ذلك بالدروس الأخلاقية والإنسانية العالمية.

المرحلة الرابعة: المقارنة التحليلية

  • في الآية الأولى : ظهر اختلاف في أن المفسرين شددوا على أن “الكتاب” من عند الله، وهو بعد عقدي لم يصرح به النموذج. بالمقابل أضاف الذكاء الاصطناعي تفاصيل عامة حول العقائد والأخلاق لم يبرزها المفسرون بنفس الصياغة.
  • في الآية الثانية: توافق الطرفان حول إمكانية أن يراد بالقرآن سورة يوسف. لكن المفسرين تناولوا قضية دخول ألفاظ غير عربية، بينما لم يشر إليها النموذج .
  • في الآية الثالثة : ميز التفسير البشري بالدراسة اللغوية لإعراب “أحسن القصص”، بينما ركز الذكاء الاصطناعي على العبرة الإنسانية والجمالية.

أبرز النتائج

هذه أهم النتائج التي توصل لها الدكتور مراد قاياجان في دراسة المقارنة التي أجراها بين التفسير البشري التقليدي والتفسير المدعوم بالذكاء الاصطناعي :

  • التفسير المدعوم بالذكاء الاصطناعي يتيح تحليلًا أوليا سريعا يجمع بين عدة أبعاد، ويوفر للباحث قاعدة أولية في فهم النص.
  • فجوة واضحة بين السرعة والعمق: يظل التفسير البشري أعمق وأدق وألصق بالسياق التاريخي واللغوي.
  • التكامل لا التنافس: يتضح أن التفسيرين يكملان بعضهما؛ الآلة تقدم سرعة وحيادًا وشمولية، في حين يقدم الإنسان دقة وتأصيلًا عقديًا ولغويًا.
  • تباين نقاط التميز: التفصيل اللغوي والشرعي من سمات التفسير البشري، بينما التفسير الآلي أفضل في إبراز القيم العامة بلغة معاصرة.
  • إثارة أسئلة بحثية جديدة: إذ قدم الذكاء الاصطناعي بعض الرؤى التي لم يتطرق إليها المفسرون، ما يفتح مجالا لمراجعات علمية جديدة.

التوصيات

إن التكامل بين العقل والاجتهاد البشري من جهة، وسرعة الآلة وحيادها من جهة أخرى، يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة في علم التفسير، تجمع بين أصالة الماضي وابتكارات الحاضر والمستقبل. وبهذا المنظور، يرجح أن دخول تقنيات الذكاء الاصطناعي في العلوم القرآنية سيضيف حيوية علمية ويقرب المعاني إلى الأجيال الجديدة، ويجسر الهوة بين الدراسات الشرعية والعصر الرقمي.

هذه أهم توصيات الدراسة :

  • اعتماد نهج تكاملي يجعل الذكاء الاصطناعي مساعدًا للمفسّر لا بديلاً عنه.
  • التأكيد على أن الكلمة الفصل تبقى للمفسّر البشري لما يملكه من وعي مقاصدي لا يتوفر للآلة.
  • العمل على تحسين جودة بيانات التدريب للنماذج، لتشمل مصادر تفسيرية أصيلة.
  • تطوير إطار أخلاقي مؤسسي يضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في العلوم الشرعية.
  • تأهيل العلماء وطلبة العلم في تقنيات الذكاء الاصطناعي لضمان الاستخدام الرشيد.
  • تشجيع دراسات مستقبلية على سور وآيات أخرى، مع تعاون بين علماء الشريعة والمتخصصين في اللغة الحاسوبية والذكاء الاصطناعي.

الخاتمة

خلصت الدراسة إلى أن الذكاء الاصطناعي يمثل إضافة واعدة لعلم التفسير إذا أحسن توظيفه في إطار تكاملي يستطيع توليد مقاربات جديدة، وهذا سيزيد من آفاق النقاش العلمي لكنه في ذات الوقت عاجز عن إدراك العمق الروحي واللغوي الذي يبرز جوهر النص القرآني، لذلك سيظل المفسر البشري هو المرجع الأساس، فيما تأتي الآلة خادما للبحث ومساعدا يسرع الوصول إلى الخلاصات.