إن ما جاء به الرسول ﷺ من تشريع يدل على أنه نبي هذه الأمة ،وما أحدثه النبي ﷺ من تغيير في العالم كله ، يجعل المرء يوقن أن ما جاء به الرسول ﷺ ليس من عنده بل هو من عند الله ، وإن تفاني أصحابه وحرصهم على اتباع سنته ، والتزام ما لم يفرض عليهم التزامه ، وتفانيهم في سبيل دعوته ، وفدائهم له بحياتهم ، وتفضيله على آبائهم وأمهاتهم وأولادهم وأزواجهم لخير دلائل على نبوة الرسول وتحديثه بما كان وماسيكون مما أوحي إليه وغير ذلك من الدلائل القاطعة ، كل ذلك يدل على نبوة محمد ﷺ .
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق رئيس لجنة تحقيق التراث الإسلامي سابقا بالكويت – رحمه الله – :
هناك دلائل كثيرة على نبوة محمد ﷺ أهمها:
1- أن النبي ﷺ قد نشأ أمياً لا يعرف القراءة ولا الكتابة ومات كذلك، وعرف عند قومه جميعاً بالصدق والأمانة، ولم يكن على علم بشيء من الدين، ولا الرسالات السابقة، ومكث على هذا أربعين سنة من عمره،ثم إن الوحي قد جاء بهذا القرآن الذي بين أيدينا الآن، وقد جاء هذا القرآن بمعظم أخبار الرسالات السابقة وقص أخبارها بأدق تفاصيلها كأنه عايشها، وجاءت هذه الأخبار تماماً كما هو موجود في التوراة التي أنزلت على موسى، والإنجيل الذي أنزل على عيسى… ولم يستطع اليهود ولا النصارى أن يكذبوه في شيء مما قاله..
2- ثم إنه ﷺ أخبر بكل ما سيحدث له، وما يكون لأمته من بعده من نصر وتمكين، وإزالة لملك الجبابرة كسري وقيصر، وتمكين لدين الإسلام في الأرض، وجاءت هذه الوقائع والأحداث كما أخبر به تماماً، وكأنه يقرأ الغيب في كتاب مفتوح.
3- ثم إنه أتى بهذا القرآن العربي الذي هو ذروة في البلاغة والبيان. وتحدى العرب البلغاء والفصحاء الذين كذبوه أول الأمر أن يأتوا بسورة من مثل سوره. وقد عجز هؤلاء البلغاء الفصحاء من وقتهم وإلى يومنا هذا أن يعارضوا القرآن. ولم يتجرأ أحد إلى يومنا هذا أن يزعم أنه استطاع أن يؤلف كلاماً يساوي أو يقارب هذا القرآن الكريم في نظمه وحلاوته ورونقه وبهائه.
4- ثم إن سيرة هذا النبي الكريم قد كانت مثالاً كاملاً للاستقامة والرحمة والشفقة، والصدق، والشجاعة، والكرم، والبعد عن السفاسف والزهد في الدنيا والعمل للآخرة، ومراقبة الله والخوف منه في كل حركاته وسكناته.
5- ولقد أوقع الله حبه العظيم في قلوب جميع من آمنوا به وصحبوه. حتى إن أحدهم كان يفديه بنفسه وأمه وأبيه. وما زال الذين آمنوا به لليوم يعظمونه ويحبونه، ويتمنى الواحد منهم أن يراه مرة واحدة ولو قَدَّمَ في سبيل ذلك أهله وماله..
6- ولم يحفظ التاريخ كله سيرة رجل في العالم كما حفظ سيرة هذا الرجل الذي هو أعظم عظماء الأرض كلها، والتي لم تعرف الأرض كلها رجلاً يذكره المؤمنون في كل صباح ومساء ويسلمون ويصلون عليه مرات عديدة كل يوم، وذلك بملء قلوبهم، ومحبة أنفسهم..
7- ولم يوجد رجل في الأرض كلها لا يزال المؤمنون يقتدون به في كل حركاته وسكناته فينامون كما كان ينام، ويتطهرون كما كان يتطهر وضوءاً وغسلاً، ويلتزمون في طعامهم وشرابهم وملبسهم، وحياتهم كلها بالتعاليم التي نشرها بينهم، والسيرة التي سار عليها في حياته…
فالمؤمنون بهـذا النبي الكريم في كل جيل منذ وقته وإلى يومنا هذا يلتزمون تعاليم هذا الرسول التزاماً كاملاً، حتى إن بعضهم ليتبع هذا النبي ويحب أن يقتدي به في الأمور الخاصة التي لم يتعبدهم الله بهـا، كأن يحبوا نوع الطعام الذي كان يحبه هذا الرسول، ويلبسوا نوع اللباس الذي كان يلبسها ؛ هذا فضلاً أن يكرروا الأذكار والأوراد والأدعية التي كان يقولها في كل أعماله في اليوم والليلة كالسلام ودعاء دخول المنزل والخروج منه، ودخول المسجد، والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، والنوم واليقظة، ورؤية الهلال، ورؤية الفاكهة الجديدة، والذكر عند الطعام والشراب واللباس والركوب، والسفر، والقدوم.. الخ.
هذا فضلاً على أنهم يؤدون كل عبادتهم من صلاة وصوم وزكاة وحج، كما علمهم هذا الرسول الكريم ﷺ… وكما كان يؤديها تماماً في كل حركاتها وسكناتها حتى أدق تفصيلاتها.
وهذا جميعه يجعل المؤمنون به يعيشون حياتهم كلها وهذا الرسول الكريم هو أسوتهم وقدوتهم، وكأنه ماثل أمامهم في كل حركاتهم وسكناتهم…
8- إنه لا يوجد ولم يوجد رجل في الأرض كلها نال هذا الحب والتكريم والتعظيم والطاعة في الصغير والكبير كهذا النبي الكريم…
9- ولقد اتبع هذا النبي الكريم أناس من كافة الأجناس والألوان والشعوب، وفي كل بقاع الأرض، وفي كل الزمن منـذ يومه وإلى يومنا هذا، وقد سبق لكثير من هؤلاء الذين اتبعوا هذا النبي أن كانـوا نصارى، أو يهوداً، أو مشركين، أو وثنيين، أو لادينيين، وقد كان منهم من أهل الرأي والحكمة والنظر والبصيرة الذين اتبعوا هذا النبي الكريم بعد أن شاهدوا آيات صدقه، ودلائل معجزاته ولم يكن اتباعه إكراها أو جبراً أو تقليداً للآباء والأمهات.
بل إن كثيراً من أتباع هذا النبي ﷺ قد اتبعوه في وقت ضعف الإسلام وقلة المسلمين، وكثرة الاضطهاد لأتباعه في الأرض، ولم يكن اتباع معظم الناس لهذا النبي لأنهم سيحصلون من وراء ذلك على منافع مادية عاجلة، بل إن كثيراً منهم قد تعرض لأقسى أنواع الأذى والاضطهاد لاتباعه دين هذا النبي، ومع ذلك لم يردهم ذلك عن دينه.
إن كل هـذا يدل دلالة واضحة لكل ذي عقل على أن هذا النبي كان رسول الله حقاً، ولم يكن رجلاً ادعى النبوة أو قال على الله بغير علم…
10- هذا فضلاً على أنه أتى بدين عظيم في بنائه العقائدي والتشريعي: فإنه وصف الله بما لا يستطع كل الفلاسفة والحكماء أن يأتوا بوصفٍ لله ينزهونه به كما أخبر به هذا النبي عن الله سبحانه وتعالى بل لا يمكن أن يتصور عقل للبشر أن يصل إلى وصفٍ موجودٍ في كمال القدرة والعلـم والعظمة والهيمنة على الخلق والإحاطة بكل صغيرة وكبيرة في الكون، هذا مع الرحمة الكاملة، كما جاء وصفُ الله على لسان هذا النبي ﷺ.
وليس في مقدور أحد من البشر أن يضع تشريعاً كاملاً لكل أعمال الإنسان في الأرض يقوم على العدل والقسطاس، والرحمة، والإنصاف كالتشريع الذي جاء به هذا النبي لكل عمل الإنسان في بيعه وشرائه، وزواجه وطلاقه، وإجارته، وشهادته، وكفالته… وفي جميع العقود التي لا بد منها لقيام الحياة والعمران في الأرض.
11- ويستحيل أن يكتب إنسان في الحكمة والخلق والأدب وسمو النفس وعلوها، كما جاء به هذا النبي الكريم ﷺ فقد نشر تعليماً للأخلاق والآداب مع الوالدين والأرحام والأصدقاء، والأهل والناس، والحيوان والنبات، والجماد بصورة شاملة كاملة يستحيل أن يدركها عقل بشر يفكر بمفرده ويأتي بمثل هذه التعاليم..
وكل ذلك مما يـدل دلالة قاطعة أن هذا الرسول لم يأت بهذا كله من عند نفسه وإنما كان تعليماً ووحياً ممن خلق الأرض والسموات العلا وخلق هذا الكون العجيب في بنائه وإحكامه…
12 -إن البناء التشريعي والعقائدي للدين الذي جاء الرسول محمد ﷺ يشبه البناء الهندسي البديع للسموات والأرض وكل ذلك يدل على أن من خلق السموات والأرض هو الذي أنزل هذا التشريع العظيم والدين القويم…
إن درجة الإعجاز في التشريع الإلهي المنزل على محمد كدرجة الإعجاز في الخلق الإلهي للسموات والأرض… فكمـا أن البشر لا يستطيعون خلق هذا الكون فكذلك البشر لا يستطيعون الإتيان بتشريع كتشريع الله الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ﷺ.
وكما أن كل شيء في موضعه الصحيح في الخلق: فالشمس في مكانها الصحيح، ولو تقدمت إلينا قليلاً لاحترقنا، ولو تأخرت عنا بعيداً لتجمدنا..
والهـواء في ميزانه الصحيح من حيث الأوكسجين وبقية العناصر، والماء في موضعه الصحيح من الأرض كماً وكيفاً وتوزيعاً، والرياح في مساراتها الصحيحة.
فإن تشريع الله أنزل على محمد في كل جزء منه في مكانه الصحيح من حيث ما يجب أن يكون عليه عمل الإنسان وكل زيادة أو حذف أو اشتراط أو إلغاء هو عبث وتخريب وتدمير لبنائه المعجز.