بعد أن بين أن معنى القصر في قوله تعالى {ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [الروم: 8] هو أن خلقهم ملابسٌ للحق، أبدع الإمام ابن عاشور في بيان دلالة الحق الذي خُلقت السماوات والأرض ملابسة له، فقال:

“والحق هنا هو ما يحق أن يكون حِكمة لِخلق السماوات والأرض وعلة له، وحق كل ماهية ونوع هو ما يحق أن يتصرف به من الكمال في خصائصه وأنه به حقيق، كما يقول الأب لابنه القائم ببره: أنت ابني حقاً، ألا ترى أنهم جعلوا تعريف النكرة بلام الجنس دالاً على معنى الكمال في نحو: أنت الحبيب، لأن اسم الجنس في المقام الخطابي يؤذن بكماله في صفاته، وإنما يعرف حق كل نوع بالصفات التي بها قابليته، ومن ينظر في القابليات التي أودعها الله تعالى في أنواع المخلوقات يجد كل الأنواع مخلوقة على حدود خاصة بها إذا هي بلغتها لا تقبل أكثر منها؛ فالفرس والبقرة والكلب الكائنات في العصور الخالية وإلى زمن آدم لا تتجاوز المتأخرة من أمثالها حدودها التي كانت عليها فهي في ذلك سواءٌ.

دلت على ذلك تجارب الناس الحاضرين لأجيالها الحاضرة، وأخبارُ الناس الماضين عن الأجيال المعاصرة لها، وقياسُ ما كان قبل أزمان التاريخ على الأجيال التي انقرضت قبلها، حاشا نوع الإنسان، فإن الله فَطَره بقابلية للزيادة في كمالات غير محدودة على حسب أحوالِ تجدُّدِ الأجيال في الكمال والارتقاء، وجعله السلطان على هذا العالم والمتصرف في أنواع مخلوقات عالَمِه، كما قال {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29] وذلك بما أودع فيه من العقل.

ودلت المشاهدة على تفاوت أفراد نوع الإنسان في كمال ما يصلح له تفاوتاً مترامي الأطراف، كما قال البحتري:

ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً     لدى الفضل حتى عُدّ ألف بواحد

فدلت التجربة في المشاهدة كما دلت الأخبار عن الماضي وقياس ما قبل التاريخ على ما بعده، كل ذلك دل على هذا المعنى، ولأجل هذا التفاوت كلف الإنسانَ خالقُه بقوانين ليبلغ مرتقى الكمال القابل له في زمانه، مع مراعاة ما يحيط به من أحوال زمانه، وليتجنب إفساد نفسه وإفساد بني نوعه، وقد كان ما أعطيه نوع الإنسان من شُعب العقل مخوِّلاً إياه أن يفعل على حسب إرادته وشهوته، وأن يتوخّى الصواب أو أن لا يتوخّاه.

 فلما كلفه خالقهُ باتباع قوانين شرائعه ارتكب واجتنب فالتحق تارة بمراقي كماله، وقصَّر تارة عنها قصوراً متفاوتاً، فكان من الحكمة أن لا يُهمَل مسترسلاً في خطوات القصور والفساد، وذلك إما بتسليط قوة مُلْجِئَة عليه تستأصل المفسد وتستبقي المصلح، وإما بإراضته على فعل الصلاح حتى يصير منساقاً إلى الصلاح باختياره المحمود، إلا أن حكمة أخرى ربانية اقتضت بقاء عمران العالم وعدمَ استئصاله، وبذلك تعطل استعمال القوة المستأصلة، فتعين استعمال إراضته على الصلاح، فجمع الله بين الحكمتين بأن جعل ثواباً للصالحين على قدر صلاحهم وعقاباً للمفسدين بمقدار عملهم، واقعاً ذلك كلُّه في عالم غير هذا العالم، وأبلغ ذلك إليهم على ألسنة رسله وأنبيائه إزالة للوصمة، وتنبيهاً على الحكمة، فخاف فريق ورجا فارتكب واجتنب، وأعرض فريق ونأى فاجترح واكتسب.

 وكانَ من حق آثار هاته الحِكم أن لا يُحرم الصالح من ثوابه، وأن لا يفوتَ المفسد بمَا به ليظهر حق أهل الكمال ومَن دونهم من المراتب، فجعل الله بقاء أفراد النوع في هذا العالم محدوداً بآجال معينة وجعل لبقاء هذا العالم كله أجلاً معيناً، حتى إذا انتهت جميع الآجال جاء يوم الجزاء على الأعمال، وتميز أهل النقص من أهل الكمال.

فكان جَعْل الآجال لبقاء المخلوقات من جملة الحق الذي خُلقت ملابِسةً له، ولذلك نُبّه عليه بخصوصه اهتماماً بشأنه، وتنبيهاً على مكانه، وإظهاراً أنه المقصدُ بكيانه، فعطفه على الحق للاهتمام به، كما عطف ضده على الباطل. في قوله {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115]، فقال {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى}.