في الناس من تمضي حياته من المهد إلى اللحد على نسق مستقر، تسلمه كل مرحلة إلى تاليتها دون ضجيج ولا مفاجآت ولا مشكلات، وفيهم من تمتلئ آفاقه بالأعاصير، وتواجهه في طريقه “التحويلات” والمنعطفات المفاجئة، فتمضي حياته كفيلم دراميٍ تتلاحق أحداثه فتحبس أنفاس المشاهدين.

وإلى هذا الصنف ينتمي صاحبنا “دوتي” البريطاني الذي ولد ومات في بريطانيا، وعرف على مدى عمره المديد البالغ ثلاثاً وثمانين سنةً صنوفاً مختلفة من المغامرات والمفاجآت، ومرّ بعدد من التحولات، حتى صار ينبغي له أن يقول ما قاله نيرودا في عنوان سيرته الذاتية: “أعترف بأنني قد عشت”! وصدق، فقد امتدت حياته عبر الزمان والمكان على نحو لم يتح للكثير من الناس.. فلنر كيف عاش ضيفنا في هذه المقالة؟!

ولد تشارلز مونتاجو دوتي في مقاطعة سوفّولك البريطانية منتصف عام ١٨٤٣ للميلاد، في وقت كانت فيه بريطانيا امبراطورية منتفشة في مختلف قارات العالم، وقد كُتب على دوتي أن يعيش عمراً مديداً، يلحظ فيه الانتفاش البريطاني ثم يلحظ من بعده الانكماش الكبير!

في دمائه كان حب التجوال والمغامرة يجري مجرى الدم، وآية ذلك أنه حاول أن ينتمي إلى لون من العمل يضطر صاحبه إلى التجوال الطويل، ألا وهو العمل في البحر، لكنه حين تقدم ليتأهل للعمل في البحرية الملكية البريطانية؛ لم يوفق، لأن نتيجة الفحص الطبي أظهرت عدم صلاحيته لمواجهة أعاء العمل في البحر.

كان ذلك صادماً، إلى حد أن الفتى دوتي لم يعرف كيف يتصرف، فالتحق بجامعك كامبردج، وتنقل بين كلياتها دون أن يعثر على نفسه، أو دون أن يروق له شيء، ثم ترك كل شيء، ترك كامبردج، وترك بريطانيا كلها، ومضى إلى النرويج، وعاش بها ستة أشهر يتأمل الثلوج، ويسجل ملاحظاته عنها في دراسة قدمها فيما بعد لمحفل علمي بريطاني، ثم عاد إلى كامبردج ودرس حتى نال البكالوريوس في علوم الأرض.

وعلى غرار ما فعله حين درس حقول الثلوج في النرويج؛ فقد قرر أن يعيش حياةً تقتسمها المغامرة والمعرفة، ويجمع فيها بين السفر في الأقطار والكتابة العلمية الاستكشافية، المتوغلة في التاريخ رأسياً، وفي الجغرافيا أفقياً، وابتدأ سلسلة من الرحلات الطويلة العريضة العميقة في القارة العجوز أوروبا، يحاول أن يستجلي وجه تلك القارة حين كانت صبيةً، لم يكن ذلك عملا يسيراً، فهو يقتصي صراً في الأرض، وسفراً طويلاً مضنياً، وكشطاً لركام السنين بحثاً عن الأيام القديمة، التي يصعب الوصول إليها، إذ لم يسطر عنها الكثير، وبينه وبينها مفاوز من لغات مختلفة وحقب تاريخية متطاولة.

كل هذا لن يزعج تودي، الذي ينطلق في رحلة استكشاف أوروبا بعد أن يمضي خمس سنوات يدرس اللغات الأوروبية القديمة ويتهيأ للرحلة التي شملت هولندا وبلجيكا وفرنسا وإيطاليا واليونان.

ثم يبدو لتودي أن قارة واحدة لا تكفي، فيبحر إلى شمال إفريقيا: بلاد المغرب، ثم مصر، ثم يمتطي جملاً ويتجول في شبه جزيرة سيناء حتى يبلغ الأردن.

ثم يبدو لدوتي أن يخوض صحراء جزيرة العرب، لأنه سمع عن النقوش القديمة في مدائن صالح، وبدا له أن يستكشفها، وحين يبدو لدوتي شيء ما فإن ذلك يحصل فجأة، ويسيطر عليه إلى حدٍ يجعله مصراً على تحقيقه مهما تكن العقبات والعواقب! ماذا سيعوقه؟ اللغة العربية؟ فليتعلمها! الحكومة العثمانية؟ فليتحايل عليها!

ذهب دوتي الى دمشق متنكراً بهوية رجل نصراني عربي اسمه خليل، وهناك أمضى شهوراً طويلة يتعلم العربية، وينتظر أن تأتي القافلة التي تقل الحجاج للموسم القادم.

جاءت القافلة، فالتحق بها دوتي، وكأنما هو مسلم يقصد البيت العتيق.

سارت القافلة من دمشق إلى الحجاز مروراً بالأردن، فلما بلغت مدائن صالح انسلّ منها دوتي، وأكب على دراسة النقوش القديمة في جبال الحِجر، ثم طرأت له فكرة التجول في شمال الجزيرة العربية، فصعد شمالاً إلى تبوك، ثم أخذ تلقاء نجد حتى بلغ حائل، ثم توغل أكثر حتى بلغ القصيم، وبعد واحد وعشرين شهرا، في جزيرة العرب وجد دوتي نفسه في جدة، ومن هناك أبحر إلى بلاده ثانية!

وهناك كتب كتابه الذي لخص فيه رحلاته المجنونة، وسماه “رحلات في قفار الجزيرة العربية”، ونشر الكتاب وأقبل عليه الناس إقبال الفضوليين على عالم غريب غامض، فوجدوا الكتاب تحفة مضاعفة المزابا، أحداث مشوقة، وتوثيق جغرافي، وصياغة أدبية راقية رائقة.

ويبدو أن دوتي قد سرّ بما رأى أنه قد خطّه بيمناه، فقرر بغتةً أن يصير شاعراً ملحمياً يتغنى بتاريخ الإنجليز وأمجادهم القديمة، ويسطر أيامهم الغابرة في ديوان شعري ضخم بلغ ستة أجزاء!!

هكذا كان دوتي إذن، بدأ حياته يطمح إلى العمل في البحرية، فلما تعذر عليه ذلك خاض رحلة جامعية طويلة حتى تخرج جيولوجياً، ثم صار باحثاً في تاريخ أوربا يستكشفها، ثم ارتقى به الحال فتجول في إفريقيا، ثم تعلم العربية في السام، ثم تسلل إلى جزيرة العرب، ثم عاد ليصير شاعراً!

وفي كل طور، كان دوتي ضخماً، متميزاً، ومختلفاً، مختلفاً للغاية..

وفي يناير من عام ١٩٢٦، غادر دوتي هذه الحياة، تاركاً رحلات موثقة، واستكشافات أثرية مهمة، ودوواوين شعرية ملحمية، وسيرة حياة تستحق أن تحكى!