قال الدكتور حسام صبري، الأكاديمي والمترجم المصري، إن مرجع “أكسفورد في الدراسات القرآنية” عمل موسوعي مميز، لا غنى عنه للباحث في الدراسات القرآنية، بسبب غزارة مادته العلمية وشمولها مختلف جوانب الدراسات القرآنية، ومشاركة أبرز الباحثين من الغربيين والمسلمين في إخراجه.. راجيًا أن أن يحظى “مرجع أكسفورد” بما يليق به من اهتمام، وأن يتجه الباحثون إلى تناول ما ورد فيه بالتحليل والنقد.

وأوضح د. صبري أن المرتكزات الأساسية في التعاطي الاستشراقي الكلاسيكي مع القرآن لا تزال حاضرة بقوة، بل ومهيمنة في أطروحات المستشرقين الجدد.. لافتًا إلى أنثمة تغيرًا في المنهجية الاستشراقية نتيجة تطور مناهج دراسة النصوص ذاتها في الفكر الغربي،كظهور البنيوية وغيرها، والتي تهتم باستكشاف بُنَى النصوص لا دراسة أصلها ومصدرها كما كان معتادًا من قبل.

والدكتور حسام صبري عضو هيئة التدريس بشعبة الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية بكليات اللغات والترجمة، جامعة الأزهر، وصدرت له ترجمات مهمة، أبرزها: “مرجع أكسفورد في الدراسات القرآنية” (بالاشتراك مع مصطفى الفقي)، و”مصاحف الأمويين– نظرة تاريخية في المخطوطات القرآنية المبكرة”.. فإلى الحوار:

كيف ترى اهتمام الفكر الاستشراقي بالدراسات القرآنية؟

بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أن مصطلح “الاستشراق” كان ولا يزال مثار إشكال، يتراوح بين قبول ورفض حتى في أوساط المستشرقين أنفسهم؛ لما له من دلالة سلبية ارتبطت في الأذهان بالحركة الاستعمارية والأطماع السياسية. وفي آخر مؤتمر دولي للمستشرقين، والذي عُقد في باريس سنة 1973، جاء التخلي الرسمي عن هذه التسمية. ومع ذلك، فليست العبرة بالألفاظ، وإنما بالحقائق والمعاني والمقاصد؛ فلا يزال النشاط الاستشراقي قائمًا وإن حمل أسماء أخرى.

ويشترك الاستشراق الكلاسيكي والاستشراق في ثوبه المعاصر في التركيز على بناء مقاربات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين تنبثق من منطلقات ومناهج غربية تشكك في المصادر الإسلامية، ولا تلقي لها بالًا إلا في بعض الحالات النادرة. وبديهي أن القرآن الكريم يأتي في صدارة اهتمام المستشرقين، إذ هو الركيزة الأساسية في البنيان الإسلامي.

وإذا كان الاهتمام الاستشراقي الحديث بحقل الدراسات القرآنية قد جاء مدفوعًا في بعض الأحيان برغبة علمية في استكشاف النص القرآني في مختلف جوانبه، إلا أنه لا يخلو في الأغلب الأعم من صبغة جدلية جعلت هذا الاشتباك المعرفي مجرد امتداد في كثير من الحالات لتاريخ طويل من المشروع الاستشراقي الذي سعى عبر تاريخه الممتد إلى إبطال أصالة الوحي القرآني، والطعن في مصدره الإلهي إما بنسبته تارة إلى النبي أو تارة أخرى إلى مصادر يهودية أو مسيحية عاشت في شبه الجزيرة العربية.

ثمة تغير في المنهجية الاستشراقية نتيجة تطور مناهج دراسة النصوص

وإشكالية الدراسات الاستشراقية المعنية بالقرآن على وجه التحديد، سواء في ذلك الدراسات الكلاسيكية أو الحديثة، أنها تتعامل مع القرآن على أنه مُنتج بشري له أصل خفي في المصادر اليهودية والمسيحية، وتسعى لإماطة اللثام عن هذا الأصل، تارة عبر منهج تاريخي نقدي أو مقاربات تنقيحية، ومؤخرًا باستخدام الشواهد المخطوطة المادية في محاولة لإثبات مزاعم التحريف أو التحرير للنص القرآني. ومن النماذج المبكرة في دعوى انتحال القرآن من الكتب السابقة ما كتبه إبراهام جايجر: ماذا أخذ محمد عن اليهودية؟ أو ما ذهب إليه سان كلير تيسدال في كتابه عن المصادر الأصلية للقرآن؛ إذ يرى أن زواج النبي بمارية القبطية كان له بالغ الأثر في الدين الإسلامي وفي كتابه المقدس. ولعل القارئ يرجع إلى مقالة أنجيليكا نويفرت التي قدمتْ فيها توصيفًا دقيقًا لإشكالات الطرح الاستشراقي في مجال الدراسات القرآنية، وهي مترجمة على موقع مركز تفسير للدراسات القرآنية.

هل حدث تغير في المنهجية الاستشراقية تجاه القرآن الكريم، من حيث الإنصاف والموضوعية؟

 الجواب على هذا السؤال يقتضي الحديث عن بعض جوانب التغير في المقاربات الاستشراقية ومنهجية المستشرقين أولًا، وهذا بدوره يجيبنا على مسألة الإنصاف والموضوعية. وبداية تجدر الإشارة إلى أن المرتكزات الأساسية في التعاطي الاستشراقي الكلاسيكي مع القرآن لا تزال حاضرة بقوة، بل ومهيمنة في أطروحات المستشرقين الجدد أو الباحثين الغربيين في مجال الدراسات الإسلامية والقرآنية. لكن لا شك أنثمة تغيرًا في المنهجية الاستشراقية نتيجة تطور مناهج دراسة النصوص ذاتها في الفكر الغربي-كظهور البنيوية وغيرها- والتي تهتم باستكشاف بُنَى النصوص لا دراسة أصلها ومصدرها كما كان معتادًا من قبل فيما عُرف بالمنهج الدياكروني التعاقبي أو المنهج التاريخي النقدي؛ فرأينا مقاربة جديدة تتمثل في المنهج السانكروني (التزامني).

وربما كان من المناسب هنا أن نذكر في عجالة سريعة وجه الاختلاف بين المنهجين. أما المنهج الدياكروني التعاقبي فهو منهج تاريخي نقدي يتعامل مع القرآن من فرضية أن النصّ القرآني نص مفكك، يتركب من أجزاء ليست متّسقة ولا مرتَّبة وفق الطريقة الخطيّة المعهودة في الكتابة، ثم راحوا يتتبعون تاريخ هذه الأجزاء المفككة والمصادر التي رُكبت منها فعنوا بالبحث في تاريخ تدوين النص القرآني وتطوره وجمعه وترتيب سوره وآياته، بل وضعوا ترتيبًا زمنيًا للسور القرآنية وفق فهمهم كما فعل جوستاف فايل في كتاب له بالألمانية، وترجمة عنوانه: مدخل تاريخي نقدي إلى القرآن، ثم جاء نولدكه ووضع نظريته في الترتيب الزمني للسور القرآنية وقسم فيها القرآن إلى مكي ومدني، لكنه قسم المرحلة المكية تقسيمًا ثلاثيًا بناء على اعتبارات أسلوبية اعتباطية.

قضية النظم القرآني وبنيته أصبح لها حضور بارز في الدراسات الغربية

أما أنصار المنهج السانكروني أو التزامني فينطلقون من فرضية معاكسة تمامًا، ترى أن النصّ القرآني نصٌّ متسقٌ وله بُنْيَة خاصة يتعين الكشف عنها وفهمها، وليس نصًّا مفككًا يفتقر إلى التماسك النصي والوحدة الموضوعية. وبذلك حدث تطور هائل في المنهجية الاستشراقية وإن كانت هذه المنهجية لا تزال هي صوت الأقلية في الدراسات القرآنية في عالم الأكاديميا الغربية. فقد تجاوزت نظرية التأثّر والتأثير والبحث عن أصول خفية للنصّ القرآني وباتت تتعامل مع القرآن من منطلق (المرجعية الذاتية للنصّ). كما أنها تجاوزت استشكال بُنية النصّ القرآني من جهة كونها غير خطّية وكذلك غير موضوعية؛ تلك الإشكالية التي دفعت بالاستشراق الكلاسيكي إلى عدّ الترتيب التاريخي للقرآن المفتاح الوحيد لفهمه، وأنّ الترتيب الموضوعي للنصّ هو السبيل الوحيد لجعل أفكار النصّ جلية للقارئ الغربي، أما المنهج التزامني فانطلق في مقابل هذا من تعقد بنية النصّ القرآني وخصوصية أسلوبه بما يستوجب استكشافه ودراسة أبعاده.

من هذا الطرح، ربما يستشعر المرء نوعًا من الإنصاف والموضوعية في بعض المقاربات الاستشراقية الحديثة، وهذا ما دفع ببعض الباحثين الغربيين من أمثال أنجيليكا نويفرت وهارالد موتسكي إلى الرد على أنصار الاتجاه التنقيحي الذي ظهر في سبعينيات القرن الماضي وجسّد منعطفًا جديدًا في الدراسات القرآنية. ورائد هذا الاتجاه هو جون وانسبرو، وأصحاب هذا الاتجاه التنقيحي لا يقيمون للمصادر التراثية وزنًا ولا يقبلون لها قولًا، ويقفون منها موقف التشكيك والرفض، ويزعمون أن القرآن قد كُتب بعد قرابة قرنَيْن من الزمان من ظهور الإسلام، وأن الروايات التاريخية هي محض نتاج أدبي تخيّلي لا صلة له بواقع تاريخي. وهو اتجاه يعزل القرآن عن سياقه العربي بشبه الجزيرة العربية ويضعه في سياق شامي أو عراقي.

وتجدر الإشارة إلى دور المخطوطات القرآنية التي تُكتشف من آن إلى آخر في إبطال دعاوى التنقيحين حول ظهور القرآن بعد قرنين من الزمان من مجيء الإسلام، ولكن لا تزال هذه الدعاوى تتردد في بعض الكتابات الغربية، ويتلقفها البعض بكل حماس للتشكيك في الإطار التاريخي للقرآن. ولعل كتاب “مصاحف الأمويين” للفرنسي الشهير فرنسوا ديروش، بتسليطه الضوء على عدد من المخطوطات المبكرة، قد أغلق الباب أمام هذه الدعاوى وكشف زيفها.

ما أبرز ما تضيفه الجهود الاستشراقية لحقل الدراسات القرآن الكريم، من حيث المنهجية وارتياد موضوعات جديدة؟

الدراسات الاستشراقية المعاصرة هي امتداد للقضايا المركزية في التناول الاستشراقي على مدار تاريخه. ومع ذلك، في ظل تطور مناهج الدراسات النصية وتطور أدواتها ظهرت دراسات تُعنى بنواحٍ جمالية وبلاغية في القرآن الكريم في الكتابات الغربية؛ ومن أبرز رواد هذا المجال ميشيل كويبرس الذي تبنى منهج التحليل البلاغي في إطار البلاغة السامية ليبرز قضية النظم القرآني. وأرى أن هذه الدراسات هي امتداد للدراسات الدلالية ومنهج التحليل الدلالي الذي نادى به الياباني توشيهيكو إيزوتسو.

والحقيقة أنه منذ ثمانينيات القرن الماضي أصبح هناك حضور بارز لقضية النظم القرآني وبنيته في الدراسات الغربية. ومن أوائل المعنيين بدراسة طريقة بناء النص ومناسبة الآيات والسور، وتسليط الضوء على النص القرآني بوصفه وحدة أدبية لا نصًّا مفككًا المستشرق الفرنسي بيير دي كابرونا والألمانية أنجليكا نويفرت فقد كانت لهما عناية خاصة بدراسة السور المكية، ودراسة الأسلوب والقافية والإيقاع في السور القرآنية. أما البلجيكي ميشيل كويبرس فقد عُني بتحليل أكثر من ثلاثين سورة قصيرة ومتوسطة من القرآن، ثم درس سورة مدنية من الطوال هي سورة المائدة. وجاءت هذه الدراسات ردًّا من داخل الأوساط الغربية على الدعاوى التي طعنت في النظم القرآني وفي التناسب بين الآيات والسور.

إسهامات غربية مميزة في مجال تتبع تاريخ الترجمات القرآنية وطباعة المصحف

كذلك من أبرز الجهود الاستشراقية في الدراسات القرآنية العناية بدراسة المخطوطات المادية والنقوش، ومن أبرز الباحثين في هذا المجال فرنسوا ديروش وتلميذته إلينور سيلار، وكذلك ماراين فان بوتين. ومن أهم مجالات هذا الجانب: الدراسة الباليوغرافية والكوديكولوجية التي تركز على التاريخ المادي للمصاحف دون التعرّض للنصّ القرآني نفسه (أي الفيلولوجيا)؛ فتَدْرُس الخطوط وتطوّرها وتحاول تصنيفها إلى مجموعات اعتمادًا على الأساليب الخطيَّة المؤرّخة منها. وكذلك دراسة القراءات والرسم وعدّ الآيات.

وهناك نوع من الدراسات عُني بتاريخ الفن يهتم فيه مؤرخو الفنّ بتحليل الزخارف والعناصر الفنية الموجودة في المصاحف؛ كفواصل الآي والخموس والعشور وفواتح السور وخواتيمها والإطارات المزخرفة، ويسعَون لتأريخها اعتمادًا على دراسات التقاليد الفنية السابقة على الإسلام والنماذج المعمارية المؤرّخة. وظهرت في هذا الإطار مشاريع رقمنة المخطوطات والمصاحف، ومنها كوربوس كورانيكوم (المدونة القرآنية) ويهدف إلى توثيق النص القرآني من خلال المخطوطات، وتقديم تفسير للقرآن بناء على هذا التوثيق. ويتيح للدارِس صورًا ضوئية كاملة لمصاحف القرون الهجرية الأولى من مختلف مكتبات العالم.

وعلاوة على ما سبق، كانت هناك إسهامات مميزة في مجال تتبع تاريخ الترجمات القرآنية، وطباعة المصحف، ولعلي أشير في هذا الصدد إلى مشروع القرآن في أوروبا، وهو حديث نسبيًّا يسعى لتوثيق رحلة المصحف في أوروبا، وقد صدر عن هذا المشروع كتاب جديد هذا العام بعنوان (The European Quran).

وتتجلى بوجه خاص عناية الدراسات القرآنية في الغرب بالتراث التفسيري، وبدا هذا واضحًا من خلال مرجع أكسفورد للدراسات القرآنية، ومرجع روتلدج للدراسات القرآنية الذي يصدر قريبًا بإذن الله في ترجمة عربية ويشكّل إضافة موسوعية في هذا المجال.

من خلال ترجمتكم “مرجع أكسفورد في الدراسات القرآنية”.. ما أبرز ما يتميز به هذا المرجع؟

“مرجع أكسفورد في الدراسات القرآنية” عمل موسوعي مميز، لا غنى عنه للباحث في الدراسات القرآنية، ويرجع السبب في ذلك إلى غزارة مادته العلمية وشمولها مختلف جوانب الدراسات القرآنية، ومشاركة أبرز الباحثين من الغربيين والمسلمين في إخراج هذا المرجع. وقد اشتمل على ثمانية أبواب موزعة على سبعة وخمسين فصلًا، مما يجعل المرجع هو الأوسع في بابه مقارنة بغيره من المراجع وفي مقدمتها مرجع كمبردج، ومرجع بلاكويل. وتناول الباب الأول وضع الدراسات القرآنية، والثاني المحيط التاريخي للقرآن، والثالث الانتقال النصي، والجمع القرآني، والمخطوطات، والنقوش والإصدارات المطبوعة، والرابع: الأبعاد البنيوية والأدبية في القرآن، والخامس: موضوعات القرآن ومحاوره الكبرى، والسادس: القرآن في ضوء السياق: الترجمة والثقافة، والسابع: الدرس التفسيري: الدراسات العلمية والتفاسير المبكرة والكلاسيكية والحديثة، وجاء الباب الأخير: بعنوان تفسير القرآن: الخطابات، والبُنى، والتأويل.

كتاب “مرجع أكسفورد في الدراسات القرآنية” (ترجمة د. حسام صبري بالاشتراك مع مصطفى الفقي)

وتولى تحريره البروفيسور محمد عبد الحليم: أستاذ كرسي الملك فهد للدراسات الإسلامية بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، ورئيس تحرير مجلة الدراسات القرآنية، وصاحب الترجمة الإنجليزية الشهيرة للقرآن، بالاشتراك مع د. مصطفى شاه: عضو هيئة التدريس بقسم اللغات والثقافات واللغويات بكلية الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن، وقد استطاعا التغلب على مشكلة تعدد المؤلفين فجاء المرجع متصلًا في موضوعاته وأفكاره كما لو خرج من مشكاة واحدة، مما حدا بالبعض إلى وضعه في رتبة دائرة المعارف القرآنية الصادرة باللغة الإنجليزية بوصفهما مرجعين موسوعيين لا غنى عنهما لأي مؤسسة علمية.

وجدير بالذكر أن هذا المرجع اهتمّ بإفراد مساحة أوسع للتفسير فقد خصص له بابين من أبوابه الثمانية، وربما كان الدافع وراء ذلك تجاوز الفصل المعتاد بين القرآن والتفسير منذ المرحلة الكلاسيكية. وهذه العناية الكبيرة بالتراث التفسيري سنراها كذلك في مرجع روتلدج للدراسات القرآنية. وقد اشتمل المرجعان على مختلف الاتجاهات التفسيرية، سواء ما تلقته الأمة بالقبول، أو ما شذّ عن أصول التفسير المقررة عند علماء هذا الفن. وهو أمر ينبغي الانتباه له، وخاصة فيما يتعلق بالتأويل الباطني الذي كان له حضوره الواضح في المرجعين.

وأرجو أن يحظى مرجع أكسفورد في الدراسات القرآنية بما يليق به من اهتمام، وأن يتجه الباحثون إلى تناول ما ورد فيه بالتحليل والنقد، إذ لا شك أنه مصبوع بصبغة استشراقية جدلية في مواضع عدة لا تتفق مع الرؤية الإسلامية. ولعلنا نرى قريبًا أطروحات للماجستير والدكتوراه في نقد بعض ما جاء في هذا المرجع.

يلاحظ أن بعض المنهجيات والشبهات الاستشراقية حول القرآن الكريم، قد تسربت للكتابات الإسلامية.. كيف ترصدون هذا؟

للأسف، هذا واقع نلمسه في عدد من الكتابات، فقد شهدت الحقبة الأخيرة في عالمنا المعاصر كتابات عديدة من بني جلدتنا تنتهج النهج الاستشراقي في تناول الموضوعات الإسلامية، حاملة لواء الحداثة والسعي إلى التجديد. ولعل من أبرز جوانب التأثر بالطرح الاستشراقي دعوة البعض إلى قطيعة معرفية مع الموروث الديني وزعزعة الثقة في التراث ونزع القدسية عنه. وهذا التيار في أغلبه ينطلق من تبعية فكرية للمنتج الغربي، ومرجعية فلسفية للحضارة الغربية تعتمد النهج العلماني والنظرة المادية التي تعاملت بها هذه الحضارة مع الدين وموروثاته؛ فنظرت إليه باعتباره فكرًا غير علمي تواكب مع مرحلة مبكرة من تطور العقل البشري، ثم راحت تنظر إليه نظرة مادية ترى في الواقع المادي فقط مصدرًا للمعرفة الحقيقية، فجعلت العقل والتجربة وحدها دون النقل والوجدان الطريق القويم لتحصيل المعرفة قاطعة بذلك الصلة مع الموروث لتصل في طور الحداثة وما بعدها إلى القطيعة المعرفية مع الموروث الديني خاصة، والرفض التام لكل ما هو قديم.

كتابات عديدة من بني جلدتنا تنتهج النهج الاستشراقي في الإسلاميات

ويتجلى هذا الاتجاه في عدد من القراءات الحداثية للقرآن، التي تنطلق من منهج تفكيكي يدعو إلى نزع القداسة عن النص القرآني، والتعامل معه على أنه نص أدبي يخضع لأدوات النقد النصي؛ مما يفتح الباب في كثير من الأحيان إلى التعسف والغلو في التأويل تحت دعوى إعمال أدوات المنهج الهرمنيوطيقي.

ومن أبرز القواسم المشتركة بين أصحاب هذا الاتجاه وبين المستشرقين التوسل بمناهج التفكيك والتأويل الهرمنيوطيقي والبحث التاريخي. والهدف من وراء ذلك أحيانًا هو التشكيك في المراحل التأسيسية لنقل النص القرآني، وجمعه في المصحف، وذلك من خلال تتبع الأقوال الشاذة وتسليط الضوء عليها وإبرازها لوضع رواية تاريخية بديلة تنفي الرواية السائدة. كذلك ما نراه في بعض الكتابات عن مفهوم الوحي، وهل كان الوحي باللفظ أم اقتصر على المعنى واللفظ للنبي؟ وهذا اجترار لمناهج باطنية نادت ببشرية اللفظ القرآني، فتلقفها المستشرقون وأبرزوها، ثم جاء بعض المسلمين ممن تأثر بهم فتبناها وتوسع فيها. ويظهر هذا الجانب تحديدًا في بعض الدراسات التي وردت في مرجع أكسفورد، وكذلك في مرجع روتلدج للدراسات القرآنية.

وهنا، تأتي أهمية التصدي الناقد لمثل هذه الدراسات من جانب المتخصصين لبيان ما فيها من عوار، ومواجهة مثل هذه الاتجاهات التي تصطدم بما تلقته الأمة بالقبول على مر العصور.

البعض يتعامل مع القرآن الكريم متأثرًا بالتعامل الغربي مع كتابهم المقدس.. هل يَصلح ذلك منهجيةً، خاصة إذا أخذنا في الاعتبار اختلاف سياقات التدوين والثبوت؟

لا إشكال في الإفادة من المناهج الحديثة شريطة ألا تكون انتقائية. ومعلوم أن الحكمة ضالة المسلم أنّى وجدها فهو أحق الناس بها. والتلاقح الفكري والتبادل المعرفي أمر محمود، وتاريخنا الإسلامي فيه من الشواهد ما يكفي على هذا. لكن مكمن الإشكال أن الغربيين في توظيفهم لهذه المناهج لم يتحرروا تمامًا من التحيز الأيديولوجي، فراحوا يُعملون أدوات النقد النصي الكتابي بصورة انتقائية على النص القرآني دون مراعاة لخصوصية القرآن وتدوينه في حياة النبي ثم في الجمع البكري والعثماني، وما توافر له من نقل شفاهي عبر العصور إلى جانب النقل الكتابي.

وللأسف حذا حذوهم بعض المسلمين كما ذكرنا من قبل متأثرين بدعوى التقدم الغربي في العلوم الاجتماعية وأدوات البحث العلمي ومنهجياته، وغفلوا عن الانتقادات الموجهة من بعض الباحثين الغربيين أنفسهم لهذا التعاطي الانتقائي المتحيز.

قد يبدو أن الدراسات القرآنية قد استوفت تمامها.. هل تتفقون مع هذا؟ وكيف نجدد في آفاق الدراسات القرآنية؟

الآفة التي تفتك بالبحث العلمي أن نستسلم لمقولة أن هذا العلم أو ذاك قد نضج واحترق، ولم يعد هناك أي مجال لجديد. كما أن هذا مخالف لمقاصد التأليف التي نظمها بعضهم بقوله:

ألا فاعلمنّ أنّ التّآليفَ ســــــبعةٌ لكلّ لبيبٍ في النّصيحة خالصِ فشرحٌ لإغلاق وتصحيح مُخطئ وإبداعُ حِبر مُقدم غير ناكــــــص وترتيبُ منثورٍ وجمع مُفــــــــرَّق وتقصير تطويل وتتميم ناقص

وأكبر دليل على فساد دعوى نضج حقل الدراسات القرآنية، هذا الكمّ الهائل من الدراسات الأكاديمية التي تطالعنا بها الدوائر العلمية في هذا الحقل، خاصة في الأوساط الغربية. وقد رأينا إقبال المؤسسات البحثية في الغرب على تمويل مشروعات كبرى لدراسة القرآن، ومنها كوربوس كورانيكوم، ومشروع ( Paleocoran ) بدعم من كوليدج دو فرانس وأكاديمية برلين- براندنبرج للعلوم (والباحثان الرئيسان في هذا المشروع هما فرنسوا ديروش ومايكل ماركس)، وكذلك مشروع القرآن في أوروبا الذي انطلق سنة 2019 بتمويل من مجلس الأبحاث الأوروبي.

ثم كيف يُقال إن الدراسات القرآنية استوفت تمامها، ولا تزال المحاولات الغربية في إخراج نسخة نقدية للقرآن حلمًا يراود الكثيرين، ولعل هذا هدف مشروع كوربوس كورانيكوم الحقيقي وغيره من هذه المشاريع، التي تستوجب التعاطي مع مخرجاتها ودراستها دراسة نقدية من منظور إسلامي.

من أبرز نواحي التجديد في الدراسات القرآنية العناية بالدراسات البينية

ومن أبرز نواحي التجديد في الدراسات القرآنية، العناية بالدراسات البينية في هذا الصدد، عبر مقاربات متعددة التخصصات تدرس النص القرآني من منظور يجمع بين المناسب من أدوات المنهج النقدي الغربي والمنهج التراثي الإسلامي. ولعل هذا يظهر بشكل خاص في دراسة المخطوطات وتقدير أعمارها، وتحليل الرّسم والقراءات وعدّ الآيات بالاستعانة بالأدوات الحديثة. وهذه المقاربة متعددة التخصصات نادى بها فرنسوا ديروش في كتابه مصاحف الأمويين، في محاولة تقدير عمر عدد من المخطوطات القرآنية المبكرة؛ فشدد على ضرورة عدم الاعتماد على التحليل بالكربون المشع منفردًا، بل الأسلم تبني طريقة تجمع بين عدة مناهج هي الباليوغرافيا، والفيلولوجيا، وتاريخ الفن، والتحليل الكربوني.

كتاب مصاحف الأمويين (ترجمة د. حسام صبري)

ولعل مجال الدراسات التناصية بصورتها التي يتبناها أصحاب المنهج التزامني تشكل مجالًا مهمًّا وآفاقًا جديدة في حقل الدراسات القرآنية، تفتح الباب أمام اشتغال معرفي يتجاوز إبطال سردية الاقتباس والانتحال إلى بيان القواسم المشتركة بين الكتب السماوية انطلاقًا من وحدة مصدرها.

والأمر نفسه يصدق على الدراسات المعنية بالتحليل البلاغي أو البلاغة السامية، وكيفية الإفادة منها في ضوء ما كتبه علماء المسلمين القدامى في مسألة التناسب بين الآيات والسور، والإعجاز البلاغي للقرآن. هذا إلى جانب التجديد في المجال التفسيري للقرآن، وإخراجه بلغة سلسلة تناسب العصر وتقرّب المعنى إلى القارئ ليسهل تدبر معانيه والوقوف على أسراره.