أصبحت مراكز الأبحاث جزء لا يتجزأ من المؤسسات السيادية للدول، وعنصرا فعالا في رسم السياسات والخطط المستقبلية وتوجيه وتنوير الرأي العام، حيث تسهم هذه المراكز بشكل ملحوظ في صناعة القرار وتوجيهه والتأثير فيه بناء على ما تقدمه من دراسات معمقة وتحليلات دقيقة للأحداث والمستجدات التي تواجه الدول على المستوى الوطني والإقليمي وحتى الدولي، وتشمل تدخلات هذه المراكز الجانب السياسي من خلال تنمية وتطوير السياسة الخارجية للبلد ورسم خطط استراتيجية تخدم علاقاته وتحقق أهدافه، والجانب الاقتصادي عبر رسم خطط الشراكة الاقتصادية واستراتيجيات السيطرة على الأسواق الإقليمية و الدولية، ليس هذا فحسب بل تسهم هذه المراكز في خلق الوعي داخل المجتمعات بشأن القضايا المصيرية و توجيه الرأي العام و تنويره بشأنها.

ظهر الاهتمام بإنشاء وتطوير مراكز البحوث والدراسات في الغرب في القرن الثامن عشر حيث تم تأسيس أول مركز للأبحاث في بريطانيا سنة 1832 بإسم المعهد الملكي للخدمات الموحدة، وهو معهد متخصص في الدراسات الأمنية و الدفاعية وجاءت فكرة تأسيس المعهد بعد التحديات الأمنية والعسكرية التى واجهتها بريطانيا بعد تطور الجريمة وأساليبها، والتى تسببت في تراجع دور بريطانيا العسكري. مع بداية القرن العشرين بدأت فكرة مراكز البحوث والدراسات تجتاح بعض دول العالم حيث ظهرت عدة مراكز في الولايات الأمريكية من ضمنها وقف كارانجي للسلام الدولي الذي تأسس سنة 1910 ، و معهد برنكجنز الذي تأسس 1927.

نهضة مراكز البحث في الولايات المتحدة الأمريكية

شهدت مراكز البحث في الولايات المتحدة الأمريكية نهضة كبيرة ومتسارعة خلال منتصف القرن العشرين ، و توسع هذاالقطاع البحثي وزادت فاعليته بعد الحرب العالمية الثانية، حيث شكل دعم هذه المراكز جزء من سياسة الحكومة الأمريكية في مواجهة الحرب الباردة مع الإتحاد السوفيتي. حيث خصصت مبالغ مالية معتبرة لدعم هذه المراكز، وقدمت لها الحكومة كافة الوسائل اللوجستية لتحقيق أهدافها.

وفي الوقت الراهن تعتمد الحكومة الأمريكية في الكثير من قراراتها على تحليلات وتوصيات مراكز الأبحاث، وتستقطب هذه المراكز الساسة و الباحثين و العسكريين المتقاعدين وخبراء التخطيط و الاقتصاديين والدبلوماسيين.

تشير التقارير الحديثة إلى وجود 1835 مركز بحث في الولايات المتحدة الأمريكية موزعة على عدة مدن في مقدمتها : واشنطن 397 مركز، ماساتشوسْتْ 177، كاليفورنيا 169، نيويورك 144، فرجينيا 105، إلينوي 62، ميريلاند 50، تكساس47 ، كونيتيكت 44 ثم تتوزع بقية المراكز على المدن الأخري من 42 في بنسيلفينيا إلى 3 مراكز في ولاية آلاسكا. إضافة إلى دورها الفكري و التعبوي وما تقدمه هذه المراكز من دعم لسياسات الحكومة سواء سياساتها الخارجية أو الداخلية فإنها تشكل ثروة فكرية و مالية تسهم بشكل كبير في اقتصاد الدولة.

مراكز البحث تشكل ثروة فكرية ومالية 

تشكل مراكز البحوث في عالم اليوم ثروة فكرية ومعرفية وحتى مالية أيضا، فرغم ما تسهم به هذه المراكز في المجال الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي فإنها أيضا مصدر من مصادر الدخل، حيث تشير الإحصائيات الحديثة بأن العديد من الحكومات الأجنبية والوكالات التابعة لها تعتمد بشكل كبير على الدراسات والتحليلات التى تقدمها هذه المراكز، وبالمقابل تدفع هذه الحكومات مبالغ مالية سخية مقابل هذه الخدمات المقدمة من مراكز البحوث، فخلال الفترة من 2011 إلى 2014 حققت مراكز البحوث الأمريكية أرباحا بقيمة 100 مليون دولار، وذلك من خلال تقارير وتحليلات وخطط مستقبلية ودراسات قامت بها هذه المراكز للحكومات الأجنيية. كما تعتبر هذه المراكز أيضا مصدرا هاما للكادر البشري ذي المهارة العالية، حيث شكلت هذه المراكز في السنوات الأخيرة رافدا مهما من روافد الكفاءات التى تحتاجها الإدارات ومؤسسات الدولة، ذالك بأن العمل البحثي يمنح الباحث خبرة ومهارة وقدرة على تحليل الأحداث واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، لذلك تلجأ الدوائر الحكومية والإدارات إلى جذب هذه الخبرات من مراكز البحوث للعمل الحكومي.

التصنيف العالمي لمراكز البحث 2017  أين العالم الإسلامي؟

تظهر قوة و كفاءة مراكز البحث في الدول حسب هامش الحرية الذي تمنحه الحكومات لهذه المراكز في معالجة القضايا، وما تجود به من الوسائل الضرورية المادية والمعنوية واللوجستية  التي تساعد هذه المراكز على لعب دورها في رسم السياسات والخطط.  حسب صحيفة CEO Magazine  تحتل الولايات المتحدة الامريكية المرتبة الأولى من حيث عدد مراكز البحث ب 1835 مركزا، تليها الصين بـ 435 مركزا بحثيا، ثم بريطانيا بـ 288 مركزا، وفي المركز الرابع جاءت الهند بـ 280 مركزا بحثيا.

من ناحية الجودة والكفاءة احتلت مراكز البحث في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، اليابان، ألمانيا، كندا المراكز العشرين الأولى في التصنيف. حيث تميزت هذه المراكز بجودة ودقة أدائها البحثي من خلال التحليلات والسياسات والتقارير التى قامت بنشرها، يلاحظ بشكل ملفت ضعف أداء مراكز البحوث في العالم العربي والإسلامي فرغم أن المائة الأولى للتصنيف ضمت دولا من بينها الأرجنتين وجنوب إفريقيا وأوكرانيا وكوريا الجنوية إلا أن أول دولة إسلامية في التصنيف جاءت في المرتبة 100 حصلت عليها ماليزيا من خلال مركز الدراسات السياسية العامة (CPPS).

يتبادر للذهن سؤال أين العالم الإسلامي من هذا التطور البحثي والعلمي الذي يجتاح دول العالم ويسهم في تطوير اقتصادات الدول ويحمي سياساتها ويراعي مصالح شعوبها و يستشرف مستقبلها،  ما يزال أداء هذه المراكز ضعيفا جدا ولأسباب أهمها ضعف هامش الحرية الممنوح لهذه المراكز، ضعف الغطاء المالي وخبرة الكادر البشري وغياب الدعم الحكومي فإلى متى ستنتبه هذه الدول إلى أهمية هذه المراكز واسهاماتها في التنمية؟