إذا تصفحنا صفحات التاريخ الأموي نجد علماء الحديث روادًا بارزين من رواد الحركة العلمية على مستوى الدولة الإسلامية، ومن نبغاء رجال الأمصار الإسلامية وأصحاب القِدح الـمُعلّى في رواية الحديث وتعليمه ونشره، وهم الحفاظ الأثبات المعتبرون صورة حية لصحابة الرسول ﷺ، ونواة موسوعية متكاملة للسنة النبوية وعلومها.
وفيما يلى الصورة المصغرة عن رحاب مراكزهم العلمية العامة:
1. المدينة النبوية “عاصمة السنة”
تزعم مشيخة مدرسة الحديث بالمدينةجمهور بقايا الصحابة الربانيين الذين لم يزلوا بها مقيمين معلمين حتى الوفاة، ومن هؤلاء الأخيار: أبو هريرة وأم المؤمنين عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وأبو سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم، ثم امتد طور التابعين بعد عهد صغار الصحابة واشتهر بالمدينة عدد من أهل العلم من أئمة المحدِّثين الراسخين، أمثال سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود والقاسم بن محمد بن أبى بكر وسالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى ابن عمر ومحمد بن مسلم الزهري وخلق كثير يكثر تعدادهم، وهم الذين كانوا أركانا للسنة في ذلك الوقت، ولذلك نجد الطابع المتميز للمدينة هو الطابع الديني المحض.
2. مكة المكرمة “ملتقى سنوي لحملة العلم”
تبوأ ابن عباس رضي الله عنهما أسمى منصب الزعامة الدينية في مكة بعد عودته من البصرة – إثر مقتل أمير المؤمنين علي بن أبى الطالب – وعلى يديه تخرج أفاضل العلماء رواة الحديث في مكة، وقال عبد الله بن أحمد رحمه الله: قال أبي: أصحاب ابن عباس هم المحدثون والمفتون.[1] أمثال عكرمة أبو عبد الله البربري. وعطاء بن أبي رباح وأبو الزبير المكي محمد بن مسلم وغيرهم.
3. مدرسة الكوفة.
أصبحت الكوفة في العصر الأموي من مشارق العلم الناضج تعج بالمحدثين الثقات، وقد استظهر هذه الصورة العلمية أنس بن سيرين رحمه الله لما قدم الكوفة حيث قال: أتيت الكوفة فرأيت فيها أربعة آلاف يطلبون الحديث، وأربعمائة قد فقهوا.[2] وقد سكن ابن مسعود بين أهل الكوفة عشرين سنة حتى خلافة عثمان ولم يغادرها إلا بعد أن صار جوّها جوًّا علميًا راقيًا لم يكن له نظيرٌ في تلك الفترة، إلى حد أن شهد بذلك أمير المؤمنين علي رضي الله عنه لما قدم الكوفة ورآى علو شرف تلاميذ ابن مسعود رضي الله عنه في العلم وآثارهم المباركة المنتشرة في أنحاء البلد؛ فقال رضي الله عنه:” أصحاب عبد الله سرج هذه القرية”[3]
وانظر ترجمة هذه العبارة في واقع أمثال علقمة بن قيس النخعي الذى قال عنه ابن مسعود رضي الله عنه: ” لا أعلم شيئا إلا وعلقمة يعلمه”.[4] وعبيدة السلماني والأسود بن يزيد النخعي، الذين تخرجوا في مدرسة ابن مسعود رضي الله عنه وتسلموا راية حمل السنة النبوية وروايتها وحفظها وتأديتها للأجيال التالية، وهم من أَجَلّ من تدور عليهم سلسلة أسانيد أهل الكوفة وغيرها.
وناهيك بعبد الرحمن بن أبي ليلى، الذى أدرك مائة وعشرين من الصحابة، وإبراهيم بن يزيد النخعي أحد الأعلام، وكان بصيرا بعلم ابن مسعود، واسع الرواية، فقيه النفس، كبير الشأن، كثير المحاسن. وعامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله، الذي يقول عنه ابن عمر رضي الله عنهما، لما رآه يحدث بالمغازي: ” لهو أحفظ لها مني، وإن كنت قد شهدتها مع رسول الله ﷺ”[5]
والمقصود أن بلاد الكوفة في تلك الفترة امتلئت برجال الحديث الموثوق بهم، المشهورين بالصدق والأمانة، والذين كانت عنايتهم بالسنة النبوية – رواية ودراية – لا تقل عن عنايتهم واهتمامهم بالقرآن الكريم.
4. البصرة
كانت مدينة البصرة من إحدى مملكة السنة النبوية ومراكزها في العصر الأموي، وهي التى تزعم أنس بن مالك وعمران بن حصين رضي الله عنهما مدرستها الحديثية، وتخرج فيها كثير من أعلام نبلاء التابعين المأمونين كالحسن البصري إمام مشهور، وابن سيرين مولى أنس، ومطرف بن عبد الله، وقتادة، وثابت البناني، وحميد الطويل، وسليمان التيمى، وأبو العالية البصري الذي قيل عنه: “كان أشبه أهل البصرة علما بإبراهيم النخعي”.[6] وأمم أخرى سواهم كثير.
وهؤلاء الذين قاموا برعاية السنة حق الرعاية ولم يدخروا وسعا في تحملها وأدائها، وكرسوا حياتهم في ذلك السبيل حتى غدت السنة بالبصرة مشرقة ظاهرة واضحة، فأصبحت من المدن التي يشاد إليها الرحال لرواية آثار نبوية وآثار صحابية.
5. بلاد الشام “عاصمة الخلافة الإسلامية”
مع كون الشام عاصمة الدولة الإسلامية طيلة العهد الأموي فإنها كذلك كانت محتضنة للنوابغ من أهل العلم بالسنة وعلومها من الصحابة والتابعين الأعلام وغيرهم من الأخيار، فصارت بلاد الشام تغص بنور النبوة الساطعة لا تلبسه ظلمة الضلال.
يقول الإمام السخاوي رحمه الله: وكثر بها العلم زمن معاوية رضي الله عنه ثم زمن عبد الملك وأولاده، وما زال بها فقهاء، ومحدثون، ومقرؤون، زمن التابعين فمن بعدهم…”[7] ولعلّ ما يزيد هذا الكلام وضوحاً عرض ما قاله أبو مسلم الخولاني رحمه الله لما قدم حمص حيث قال: دخلت مسجد حمص فإذا أنا فيه نحو من ثلاثين كهلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم”[8]
وهذا أفادنا أن الشام ينعم بوفرة التراث النبوي الصافي، ومن الطبيعي إذا كان الشام بهذه المثابة أن يصبح محجَّة الخير الواضحة والمنبع تهوي إليه أفئدة طلاب العلم يلتمسون فيه علما، ومن ثم وجدنا من نباتاتها الناصعة وخريجها النابغة:قبيصة بن ذؤويب وأبو إدريس الخولاني ومكحول رحمهم الله.
6. بلاد مصر
صارت تلك البلاد مصر العلم ومركزا من المراكز العلمية المعول عليها في تلقي علم السنة منذ أن سعدت بنزول الصحابة الكرام فيها، فأتاح لأبنائها فرص الإقبال على التزود من معين العلم النبوي الأصيل.
وكان من أكثر الصحابة تأثيراً في بلاد مصر: عمرو بن العاص وابنه عبد الله وعقبة ابن عامر رضي الله عنهم، ثم انتهت رياسة العلم إلى يزيد بن أبي حبيب رحمه الله، وكان شيخا للديار المصرية كلها ومفتيها بلا نزاع.
وكان الليث بن سعد رحمه الله يقول: هو عالمنا وسيدنا.[9]
وعن شرحبيل بن جميل رحمه الله قال: أدركت الناس زمن هشام بن عبد الملك والناس إذ ذاك متوافرون وكان بمصر يزيد بن أبي حبيب، وعُبَيد الله بن أبي جعفر، وجعفر بن ربيعة، وابْن هبيرة، والحارث بن يزيد.[10]
وكذلك بكير بن عبد الله بن الأشج المدني نزيل مصر، وعبد الرحمن بن شماسة المهري من ثقات المصريين، كان قد صحب زيد بن ثابت زمانا، وبكر بن سوادة الجذامي من ثقات أهل مصر، والضحاك بن فيروز الديلمي من الأثبات في الروايات، وسهل بن معاذ بن أنس الجهني من خيار أهل مصر، ومسلم بن يسار رضيع عبد الملك بن مروان صاحب أبى هريرة.[11] وغيرهم من الأفاضل.
7. اليمن
من أشهر سادات علماء التابعين الورثة لعلم السنة النبوية المتضلعين فيها من أهل اليمن في زمن بني أمية: أبو عبد الرحمن طاووس بن كيسان، وكان أحد الأئمة الأعلام، قد جمع العبادة والزهادة، والعلم النافع، والعمل الصالح، وأدرك خمسين من الصحابة، وأكثر روايته عن ابن عباس، وروى عنه خلق من التابعين وأعلامهم.[12]
ومن أمناء حملة السنة النبوية في اليمن أيضا: أخوان وهب وهمام ابنا منبه، وكانا من أهل الفضل والنسك والفقه ومن أهل الحديث الكبار الذين يشار إليهم بالبنان في علم السنة. وخلائق أخرى كثيرة من طراز العلم.
قال ابن حبان رحمه الله: وإنما وقع جلة أهل اليمن من التابعين بالشام ومصر فسكنوها ثم استوطنوها حتى لقد نزل بحمص وحدها من سكسك[13] وسكاسك قبيلتين من اليمن زهاء ألف نفس، إلا أن أكثرهم اشتغلوا بالغزوات والعبادات فلم يظهر كثير علم إذا هم أهل سلامة وخير، كانوا لا يشتغلون بما يؤدى التنوق من العلم وآثروا العبادة عليه.[14] ومع ذلك لهم أياد بيضاء في خدمة السنة النبوية كما لا تخفى.
8. خراسان
نزح كثير من الصحابة إلى خراسان موزَّعين على نواحيها وسكنوها واستطنوها وحملوا معهم ما وعوه وحفظوه عن رسول الله ﷺ، فتعطشت نفوس الناس إلى مجالستهم والأخذ عنهم تلك الثروة الثمينة، ومن أشهر هؤلاء الصحابة: بريدة بن الحصيب والحكم بن عمرو وقريط بن أبى رمثة وقثم بن العباس وقيس بن سعد على نحو ما ذكره ابن حبان[15] ثم تسلم التابعون راية مسؤولية العلم والتعليم على أساسه الوطيد من أفواه أولئك السادات، ومن أشهرهم: عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، والربيع بن زياد كان عامل معاوية بن أبى سفيان على خراسان، سمع أبى بن كعب وغيره من الصحابة، والربيع بن أنس بن زياد البكري سمع أنس بن مالك الزبير بن عدي الهمداني، وأبو عدى سمع أنس بن مالك، وكان من العباد والمتقنين من الزهاد.[16]
ويوجد في خراسان خلق آخرون من نحارير المحدثين في هذا العهد الأموي، ولم يزل علم الحديث غضّاً عند أهل خراسان حتى كان من البلدان التى تشد إليها الرحال لرواية الحديث وكانت وليدة للصحيحين وغيرهما من أمهات كتب السنة فيما بعد.
[1] العلل ومعرفة الرجال، 1/294
[2] المحدث الفاصل. ص: 408
[3] طبقات ابن سعد. 6/10
[4] معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار 1/52
[5] مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 9/751
[6] سير أعلام النبلاء. 4/209
[7] البلدانيات، ص: 181
[8] رواه أحمد في المسند. 36/399.
[9] العبر في خبر من غبر. 1/129
[10] المصدر السابق. 8/415
[11] ينظر مشاهير علماء الأمصار. ص: 193 – 197
[12] ينظر البداية والنهاية. 9/263
[13] السَّكسك: سكسك بن الأشرس ابن كندة: حيٌّ من اليمن، وولده السَّكاسك، والنسبة إِليهم سَكْسَكي. شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم. 5/2919
[14] مشاهير علماء الأمصار. ص:201
[15] ينظر مشاهير علماء الأمصار ص: 100 – 102
[16] ينظر المصدر السابق. ص: 202 – 204