شكلت رحلات المفكرين إلى الغرب أحد مصادر الوعي بالآخر منذ القرن التاسع عشر، فقد أسهمت رحلات دعاة الإصلاح وما دونوه بشأنها من كتابات في التعريف بخصائص الغرب وأخلاق أهله وعاداتهم ومذاهبهم الفكرية والأدبية، وأحدثت هذه الكتابات أثرها في العقل الإلمسلم الذي بات سؤال النهضة واللحاق بالغرب شغله الشاغل، وضمن هذا السياق يمكننا التوقف أمام ثلاث رحلات لعبت دورها في إعادة تشكيل صورة الآخر في الوعي الإسلامي، وحثه على الأخذ بأسباب التقدم ، وهي: رحلة رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا (1825)، ورحلة فارس الشدياق إلى بريطانيا في منتصف القرن التاسع عشر، ورحلة محمد كرد علي إلى فرنسا (1910) وبإمكاننا التوقف أمام رؤية كل منهم لأسباب التقدم الغربي، ومظاهره، وكيف للشرق أن ينهض مجددا.
رحلة الطهطاوي: تخليص الإبريز
يتصدر كتاب رفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريس) الصادر عام 1834م ويعتبر أشهر كتب رحلات المفكرين إلى الغرب ، وفيه نتبين مدى اندهاش العقل المسلم مما حققه الغرب، حيث يذكر الطهطاوي في المقدمة أنه قرر تدوين ما يقع له في سفره “من الأمور الغريبة، والأشياء العجيبة” ليكون نافعا في كشف اللثام عن هذه البقاع، ولعله استشعر الحرج من استحسان بعض مظاهر الحضارة الغربية وتخوف مما قد يقابل به لذا استبق بالقول ” وقد أشهدت الله سبحانه وتعالى على ألا أحيد في جميع ما أقوله عن طريق الحق، وأن أفشي ما سمح به خاطري من الحكم باستحسان بعض أمور هذه البلاد وعوائدها، على حسب ما يقتضيه الحال، ومن المعلوم أنني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نص الشريعة المحمدية”، وختمها بدعوة ديار الإسلام إلى البحث عن العلوم والفنون والصنائع من بلاد الإفرنج.
ويفسر الطهطاوي دواعي تقدم الغرب وتفوق حضارته، ويقدم في ذلك تأويلات شتى بعضها يتعلق بسياسة العدل المتبعة في بلادهم وحسن تدبيرهم وبراعتهم في إدارة الشئون العامة، وبعضها الآخر يتصل بالفكر والثقافة من مثل: سلاسة اللغة الفرنسية وعدم احتياجها إلى “معالجة كثيرة في تعلمها، فأي إنسان له قابلية وملكة صحيحة يمكنه بعد تعلمها أن يطالع أي كتاب كان؛ حيث إنه لا التباس فيها أصلاً، فهي غير متشابهة”، وسهولة مطالعة المصنفات الأجنبية “فليس لكتبها شراح ولا حواش إلا نادرة، وإنما قد يذكرون بعض تعليقات خفيفة تكميلاً للعبارة بتقييد أو نحوه، فالمتون وحدها من أول وهلة كافية في إفهام مدلولها”، والتكوين المعرفي المتين لدى العلماء الذين يختص كل منهم بمجال معين “وأما علماؤهم فإنهم منزع آخر لتعلمهم تعلمًا تامًا عدة أمور، واعتنائهم زيادة على ذلك بفرع مخصوص، وكشفهم كثيرًا من الأشياء، وتجديدهم فوائد غير مسبوقين بها، فإن هذه عندهم هي أوصاف العالم، وليس عندهم كل مدرس عالمًا، ولا كل مؤلف علامة، بل لا بد من كونه بتلك الأوصاف، ولا بد له من درجات معلومة، فلا يطلق عليه ذلك الاسم إلا بعد استيفائها والارتقاء”، وأخيرا وفرة المؤسسات العلمية من: مدارس ومجامع العلماء وخزائن الكتب، وبفضل هذه العوامل استطاعت فرنسا والغرب عموما احراز قصب السبق في مضمار الحضارة.
رحلة الشدياق: كشف المخبأ
لا تختلف غاية الشدياق من رحلته عن غاية الطهطاوي ، فهو لم يضع كتابه (كشف المخبأ عن فنون أوروبا) إلا لحث إخوانه على الاقتداء بتلك المفاخر التي شاهدها في بريطانيا وفرنسا، ويبدو أن ما شاهده من مظاهر الحضارة سلبه هناءة العيش هناك حيث يقول ” ويعلم الله أني مع كثرة ما شاهدت في تلك البلاد من الغرائب وأدركت فيها من الرغائب كنت أبدا منغص العيش .. لما أني كنت دائم التفكير في خلو بلادنا عما عندهم من التمدن والبراعة والتفنن”.
تكثر المقابلات والموازنات في رحلة أحمد فارس الشدياق فهو يقابل بين أخلاقهم وأخلاقنا وعاداتهم وعاداتنا وطبائعهم وطبائعنا فينقد ويسخر لكنه لا يتوخى من ذلك إلا الإصلاح، قابل ذات مرة في رحلته بين العلم لدينا ولديهم فقال: “غير أن العلم عندهم لا يكون بمعرفة قواعد النحو والصرف أو بنظم القصائد، وإنما هو مطالعة اللغتين اليونانية واللاتينية ومعرفة أدبهما ومعرفة التاريخ والفلسفة والهندسة والرياضيات” ، ليتوصل إلى ما وصل إليه الطهطاوي من قبل أن التبحر في علوم اللغة وحده لا يمكن من النهوض دون الاعتناء بالعلوم والفنون الأخرى، وقارن بين سبل تربية الأبناء لديهم ولدينا قائلا ” وعندي أن عدم الهيبة والخوف على صغر هو الذي يورث جيل الإفرنج جميعًا الإقدام والجرأة على الأمور والكلام، ويزيدهم بسطة في الجسم والعقل، ويبطئ بهم عن الشيب والهرم … أما البلاد الشرقية فإن الأمهات يزرعن في قلوب أطفالهن الخوف من العفريت والروح الشرير والخيال والظلام وغير ذلك”
ويرجع الشدياق تقدم الغرب إلى عوامل شتى منها؛ برودة المناخ في الغرب الذي يسمح لهم بتحمل مشاق الأعمال وإدمان السعي دون كلل على حين تورث الحرارة في البلاد الشرقية الخمول، ومنها نبذهم الكسل والتراخي فـ” دين القوم العمل لا يستريحون منه إلا إذا استراح هو منهم”، ومنها حسن الترتيب والتدبير في الأشغال والمصالح والتوقيت للعمل، فلكل شيء عندهم وقت ولكل وقت شغل لا ينبغي تأخيره عنه، ومنها سياسة العدل التي لا يخشى معها أحد الإنجليز أن يستولي الحاكم على أمواله أو يحقد عليه بسببها ” لا بل يتباهى به ما شاء لاعتقاده أن غناه وغنى أمثاله موجب لغنى الدولة وشرفها، ولا يخشى أيضًا أن يتطاول عليه في حقوقه أحد ممن هو أعلى منه فإن الجميع في الحقوق متساوون”.
يلتقي الشدياق مع الطهطاوي في أن السياسة العادلة هي من دواعي النهوض أنه كان أكثر إعجابا واحتفاء بهذا العامل من الطهطاوي فذكر بكثير من الاستحسان أنه “ليس للشرطي [الإفرنجي] أن يدخل بيت أحد إلا بإذن الديوان لسبب خطير، ولا يأخذ غريما محقوقا إلا من الطريق” وفي المقابل انتقد بطش ولاة الأمر الشرقيين وذكر طرفا من تعسفهم، ومرد ذلك فيما نظن هو أن الشدياق عاش في الدولة العثمانية حيث اضطرت الدولة لتشديد قبضتها لكبح جماح حركات الانفصال والتمرد وخشية انفراط عقد الدولة.
رحلة كرد علي: عجائب الغرب
ومن رحلات المفكرين إلى الغرب رحلة كرد علي الذي أودع مضامين رحلته في كتابه “غرائب الغرب” الذي صدر عام 1910، وهذه التسمية تحملنا على الاعتقاد أن الانبهار والاندهاش مما حققه الغرب لم يزل قائما في نفوس النهضويين رغم مرور قرن على لحظة الاتصال الأولى وأعني بها الحملة الفرنسية، والحق أن الانبهار بالغرب قد بلغ مداه لدى كرد علي ربما على نحو يفوق ما لدى الطهطاوي والشدياق حيث لم يتورعا عن انتقاد بعض العادات والممارسات الغربية، فها هو كرد علي في القسم المعنون ( تحية باريس) يقول ما نصه: “سلام عليك يا مرضعة الحكمة وربيبة الرخاء والنعمة… ومحيية المدنية الأصلية في البلاد الشرقية والغربية، ومعلمة العالم كيف يكون الخلاص من الظالمين، أنت هذبت طبائع البشر حتى غدوا يشعرون باللطف والذوق وفائدة العلم والعمل…”.
تدل هذه العبارات على مدى الانبهار بمدنية الغرب لدى كرد على وحملته على تمنى القيام بـ رحلة علمية إلى فرنسا يمضي فيها بعض الوقت للتوفر على دراسة حضارة الغرب واستطلاع المعاهد التي نشأ فيها المخترعون والمكتشفون والفلاسفة والعلماء الذين هم دعامة هذه المدنية، وغرضه من تدوينها كما نستشف هو حث الديار الشرقية على الأخذ بأسباب المدنية الغربية.
شرع كرد علي في المقابلات على نحو ما فعل الشدياق من قبل فهو يقابل بين انتشار الصحافة في مصر وتركيا وإيران وانتشارها في مدينة واحدة من مدن فرنسا، ويستخرج من هذه المقابلة درجة ارتقاء بلاده وارتقاء الفرنسيين وتؤدي به المقابلات إلى الحكم بانحطاط بلاده في كل شيء وضرورة العمل على نهضتها لتلحق بركب المدنية الغربية.
ويعتقد كرد علي أن هنالك أسبابا دفعت الغرب إلى النهوض، ومنها: شيوع التخصص فكل عالم أو صاحب مهنة اكتفى بها ولم يتطاول إلى غيرها ولم يتعده ” فالاختصاص هو الذي كان واسطة نجاح الغرب، ودعوى معرفة كل شيء هي التي كانت واسطة انحطاط الشرق”، ومنها أن الغربي يستفيد بتجارب غيره لأنه يحسن الانتفاع بكل شيء ونحن عادتنا الاستهزاء بكل شيء، ومنها أن الغربي يتبع سنة الإصلاح متدرجا ونحن نحب أن نطفر الطفرة ولا نتبع سنن الفطرة، ومنها أن الغربي يحب النظام ونحن لا نكترث له، وأنه يحب التنظيم وتقسيم الأعمال والأوقات فجده جد وهزله هزل ونحن لسنا كذلك، وهكذا يستشف مما ذكره كرد علي أن الشرق ينبغي له أن يحاكي الغرب في جميع أحواله إن أراد تقدما.
خلاصة القول أن عن رحلات المفكرين إلى الغرب وخاصة هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على ضرورة إنهاض الشرق عبر محاكاة المدنية الغربية، غير أننا نلحظ في المقابل اختلافات بينهم في كيفية النظر إلى الغرب والاقتباس عنها إذ بينما غلبت على الطهطاوي نزعة دينية فلم يستحسن من أمور الغرب إلا ما تسمح له الشريعة باستحسانه، غلبت على الشدياق النزعة السياسية فقد توقف مرارا أمام افتقاد العدل وشيوع الاستبداد في الأمصار الإسلامية وما أفضى إليه من زرع الخوف في نفوس الأفراد وضمور الملكات الإبداعية، أما كرد علي فملكته نزعة التعظيم للغرب وبلغ إعجابه بالحضارة الغربية مبلغه بحيث كاد لا يرى فيها إلا حسنات ينبغي الأخذ بها دون تدقيق أو تمحيص.