شكلت حياة الشيخ المهندس محمد عبد الله المقرمي نموذجا فريدا للجمع بين العقلانية الهندسية وعمق التدبر القرآني، مقدماً بذلك مسيرة دعوية متميزة تركت بصمة واضحة في الفضاء الدعوي العربي. فمن مقاعد دراسة هندسة الطيران المدني إلى ميادين الدعوة والتعليم، نسج الشيخ الشيخ محمد المقرمي مسيرة حافلة بالبذل والعطاء، تميزت بأسلوب يجمع بين بساطة الروح وعمق المعرفة، وقد اختتمت هذه المسيرة بوفاته في مكة المكرمة في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 م.

النشأة والمسيرة التعليمية

ولد الشيخ محمد عبد الله المقرمي في عزلة المقارمة بمديرية الشمايتين في محافظة تعز اليمنية. نشأ في بيئة ريفية بسيطة، لكن طموحه قاده إلى مسار تعليمي أكاديمي متميز. حصل على شهادة البكالوريوس في هندسة الكهرباء، بالإضافة إلى دبلومات عليا ودورات تدريبية متخصصة. هذه الخلفية العلمية لم تقتصر على الجانب التقني فحسب، بل أسهمت في صقل قدراته التحليلية والمنطقية، حيث كان يجيد الرياضيات والفيزياء، فضلاً عن إتقانه للغة الإنجليزية .

رجل مسن يجلس على مقعد في حديقة، يحمل كتابًا في يده. يرتدي جلبابًا رماديًا وعمامة بيضاء، ويبتسم بينما تحيط به أزهار ملونة.
الشيخ محمد المقرمي

بدأ الشيخ الشيخ محمد المقرمي حياته المهنية كمهندس طيران مدني، وهو مجال يتطلب دقة متناهية ومنهجية صارمة في التفكير. هذا التخصص كان له تأثير بالغ في تشكيل منهجه الدعوي لاحقاً، حيث نقل معه أدوات التفكير المنطقي والتحليلي إلى ميادين التدبر القرآني.

من الهندسة إلى الدعوة

لم يكن تحول الشيخ محمد المقرمي من المجال الهندسي إلى العمل الدعوي قراراً عابراً، بل كان نتيجة لمسار طويل من المراجعة الذاتية والتأمل العميق في القضايا الروحية والفكرية [2]. كان هذا التحول مدفوعاً برغبة متنامية في توجيه جهوده نحو خدمة المعرفة القرآنية وتوجيه الناس إلى التدين الفطري المتوازن.

أسهمت خلفيته الهندسية في تشكيل منهجه الدعوي، حيث اعتمد على:

  • المنهجية والترتيب: تقديم الأفكار بصورة منطقية ومتسلسلة، مما يسهل فهمها على جمهور واسع.
  • التحليل والتدبر: التعامل مع النص القرآني من زاوية تفسيرية واضحة، قائمة على التحليل وتبسيط المفاهيم، مع ربطها بالواقع المعاصر.
  • احترام العقل: كان يؤكد على أهمية احترام عقل الإنسان ورفض التقليد الأعمى، داعياً إلى التدبر الواعي للنصوص الدينية.

التوازن بين العقل والروح

عُرف الشيخ محمد المقرمي بفكره الذي يتمحور حول التدين الفطري المتوازن، الذي يجمع بين التوحيد الخالص لله تعالى والزهد والعبادة المعمقة. كان منهجه يركز على التدبر القرآني، حيث كان يغوص في بحار القرآن الكريم والسنة النبوية، ويقدم خلاصة هذه التأملات بأسلوب عذب ومؤثر .

رجل مسن يرتدي غطاء رأس أبيض ونظارات شمسية، يقف في ساحة مزدحمة بمكة المكرمة، حيث يظهر المبنى التاريخي خلفه. الحشد يضم زوارًا يرتدون ملابس تقليدية.
الشيخ محمد المقرمي

وكان الشيخ محمد المقرمي يرى أن الداعية يجب أن يكون قدوة عملية لما يدعو إليه، مؤكداً أن كل ما يلقنه الداعية للناس يجب أن يسلكه بنفسه. وقد تميز أسلوبه الدعوي بالقدرة النادرة على الجمع بين عمق المعرفة القرآنية وبساطة الروح، مما جعله قريباً من مختلف شرائح المجتمع [3].

أبرز ملامح منهجه الدعوي

  • التدبر القرآني : التركيز على استخراج المعاني العميقة من القرآن الكريم وربطها بقضايا الحياة المعاصرة.
  • التوازن الفطري : الدعوة إلى تدين متوازن يجمع بين متطلبات الروح والجسد، بعيداً عن الغلو أو التفريط.
  • المنهج التحليلي : استخدام الأدوات المنطقية والهندسية في تحليل النصوص الدينية وتبسيط المفاهيم المعقدة.
  • القدوة العملية: التأكيد على أن الدعوة تبدأ بالسلوك الشخصي والالتزام العملي بما يُدعى إليه.

الأنشطة والمشاركات: من المنابر إلى الفضاء الرقمي

وجاء في الموقع الرسمي للشيخ، والذي يضم عدداً كبيراً من دروسه ومحاضراته المسجلة، أن نشاط الشيخ محمد المقرمي لم يقتصر على المنابر التقليدية، بل امتد تأثيره إلى الفضاء الرقمي بشكل واسع. كان يقدم محاضرات وبرامج عبر منصات مختلفة، مما ساعد على توسيع دائرة تأثيره لتشمل جمهوراً عالمياً .

كما شارك في مبادرات اجتماعية وخيرية متعددة، مما يعكس اهتمامه بالشأن العام وتطبيق المبادئ الإسلامية في خدمة المجتمع. ومن أبرز مشاركاته ظهوره ضمن برنامج “يمانيون حول الرسول” الذي ترعاه وزارة الأوقاف والإرشاد اليمنية .

مشروع “فردوس مأرب الكبير”

من أهم المشاريع التي كان يشرف عليها الشيخ محمد المقرمي هو مشروع بناء جامع كبير في مأرب اليمنية حمل اسم “فردوس مأرب الكبير”. هذا المشروع يعكس اهتمامه بالعمارة الروحية والمادية، وترك بصمة خيرية دائمة في بلده [2].

وفاته في مكة المكرمة

اختتمت مسيرة الشيخ محمد المقرمي بوفاته في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، أثناء استعداده لصلاة الفجر . وقد خيّم الحزن على الأوساط الدينية والاجتماعية لرحيل هذا الداعية الذي جمع بين العلم والعمل والمنهجية.

ترك الشيخ المهندس محمد عبد الله المقرمي إرثاً دعوياً وفكرياً غنياً، يمثل جسراً بين العلوم العصرية والتدبر القرآني. لقد كان مثالاً للداعية الذي يجمع بين عمق البصيرة وتواضع الروح، وستبقى دروسه ومحاضراته مصدراً للإلهام والتوجيه للباحثين عن التدين الواعي والمتوازن.