يقف المسلم المعاصر على عتبة القناعة متأرجحًا بين ما تمليه عليه الأحاديث والآثار من حض على لزومها، وبين رياح المادية البغيضة التي تعصف باعتداله، فتزين له الإقبال اللاهث على كل لذة ومتعة. وحين ترجح كفة الامتثال لهوى النفس ينشأ التبرم والضيق من حكمة التدبير الإلهي لأمور المعاش.
إن أخطر ما مارسه الإعلام المادي على عقول المسلمين هو تفكيك قواعد مجتمع العمل والكد مقابل الإيحاء بإمكانية تحقيق الثروة والجاه بأيسر السبل، وهذا في الحقيقة وهم كاذب يزج بالعقول في متاهة الاعتراض على التوزيع الرباني للنعم والعطايا، كما يحشر المسلم، بل الإنسان عمومًا في حلقة ضيقة يستفرغ فيها جهده وعمره. حلقة قوامها التنعم الزائد والسعي خلف الثراء بأي وجه كان! ومما انفرد به منهج التربية القرآنية؛ تعويد المسلم على الرضا والتسليم، واستحضار مشيئة الله في تصريف الأمور على نحو قلما تستوعب العقول حكمته، وبذلك يسدّ منافذ عديدة يلذ للشيطان أن يدلف منها ليثير الوساوس والمخاوف!
بل إن ابن الجوزي يعد إذعان العقل لما يجري به القدر، من جملة التكليف الذي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنه. يقول رحمه الله: “من ظن أن التكاليف سهلة فما عرفها. أتُرى يظن الظان أن التكاليف غسل الأعضاء برطل من الماء، أوالوقوف في محراب لأداء ركعتين؟ هيهات! هذا أسهل التكليف. إن التكليف هو الذي عجزت عنه الجبال، ومن جملته: أنني إذا رأيت القدر يجري بما لا يفهمه العقل، ألزمت العقل الإذعان للمقدر، فكان من أصعب التكليف. وخصوصاً فيما لا يعلم العقل معناه كإيلام الأطفال وذبح الحيوان، مع الاعتقاد بأن المقدر لذلك والآمر به، هو أرحم الراحمين. فهذا مما يتحير العقل فيه، فيكون تكليف التسليم” (أبو الفرج بن الجوزي: (صيد الخاطر) . دار الفكرللطباعة و النشر. بيروت 2004 .ص [29]).
وقد عرض القرآن الكريم و السيرة النبوية لأمثلة عديدة تحيل على عاقبة التبرم، وما يلقاه الساخطون على ما ارتضاه الله ورسوله! ففي سورتي النحل والزخرف يرد توصيف قرآني بليغ لما يعتلج في صدر المشرك العربي حين يُرزق بأنثى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58-59]. {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف:17].
وإنه لمن المؤسف حقًا أن يعج مسرح الحياة العامة بأمثال هؤلاء رغم مرور خمسة عشر قرنًا على نزول القرآن. وأن تطرق مسامعنا أنباء فشل زيجات عديدة، وتدمير بيوت عامرة لا لشيء سوى أن ربّ الأسرة متبرم من هبة ربانية خصته بالإناث دون الذكور؛ بل ويُقدم بعض الآباء على الإساءة لبناتهن، وارتكاب أشنع الجرائم بحقهن. ومن نماذج التبرم في السيرة النبوية ما أبداه ذو الخويصرة التميمي يوم قسّم النبي ﷺ غنائم حنين. ذلك أن الأنصبة الجزلة كانت من حظ المؤلفة قلوبهم من الأشراف والأعراب، بينما لم ينل الأنصار ولو قليلاً منها. فوقف التميمي على رسول الله ﷺ وهو يعطي الناس فقال: “يا محمد قد رأيتُ ما صنعت اليوم”. فقال رسول الله: «أجل فكيف رأيت؟» قال: “لم أرك عدلت!” فغضب النبي ﷺ ثم قال: «ويحك، إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟» فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ألا أقتله؟” قال: «لا، دعه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية» (المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية: (مختصر سيرة ابن هشام ج2). القاهرة 2000 . ص [193]).
إن الأمر هنا ليس تعبيرًا عن رأي، ولا اعتراضًا ليناً يروم صاحبه التماس الحكمة من وراء هذا التصرف، بل هو طعن فاحش في حق سيد ولد آدم، و اجتراء لا يصدر إلا عن نفس ضجرة متبرمة، وقلب لم تستقر فيه بذرة الإيمان الحق. وتأمل كيف قوبل هذا التوزيع النبوي للغنائم لدى الأنصار بنفوس راضية، لما ذكرهم الرسول ﷺ بأن مقامهم أشرف من أن يكون ثوابهم “لعاعة من الدنيا”؟!
إننا حين نستعرض ما يطرحه اللاهثون خلف الكسب الحرام، والمقبلون على شتى أنواع المعاصي من ذرائع واهية، نلمس بكل تأكيد حضورًا قويًا للتبرم و السخط من العدل الإلهي في تقسيم الأرزاق؛ بل وسعيًا مضمرًا أو صريحًا، لفصل الفكرة الإسلامية عن السلوك بزعم أن الزمان تغير، ولا يليق بالمسلمين في عصر الذرة أن يخضعوا لبوصلة الحلال والحرام في تحديد توجهاتهم واختياراتهم!
ومن صور التبرم والضجر من البلاء ما أورده البخاري في صحيحه، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ دخل على أعرابي يعوده قال وكان النبي ﷺ إذا دخل على مريض يعوده قال: “لا بأس طهور إن شاء الله” فقال له: «لا بأس طهور إن شاء الله» قال: “قلت طهور؟ كلا بل هي حمى تفور أو تثور على شيخ كبير تزيره القبور” فقال النبي ﷺ: «فنعم إذًا!». فهذا مبتلى يُرشده النبي ﷺ إلى ما يصرف عن النفس ذريعة التبرم فيأبى إلا الانقياد لها.
وفرق في هذا الباب بين شكوى لله تعالى، قوامها الاستعطاف كقول أيوب عليه السلام: {أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، وبين سخط لا يرفع عن صاحبه البلاء، بل يحرمه الأجر والثواب. لا شك أن التبرم آفة نفسية تحيلنا على عجز المسلم المعاصر عن مواجهة الابتلاء بقلب مطمئن إلى حكمة الله. ولكي تستعيد معاني الرضا والتسليم فاعليتها في حياته، فلا بديل له عن تجديد صلته بالمبدأ الإلهي الذي يحكم علاقته بالأشياء والأحياء، مبدأ قوامه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]