التربية على انطباق الاعتقاد على الواقع المعاش هو المثل الإسلامي الأعلى
من وجوه الاضطراب في الشخصية العربية تلك الفجوة بين الاعتقاد والواقع أو بين المسجد والشارع ، وهذا على عكس ما يريد الإسلام فالقيمة العليا في الحياة الإسلامية تتمثل في انطباق الاعتقاد على الواقع المعاش فذلك هو المثل الإسلامي الأعلى، وما ننشده هنا من المعلم أن يقوم بإعادة بناء الاعتقاد وفقًا لهذا الغاية الإسلامية المنشودة من كل وجوه الاعتقاد التي لطالما ترتبط بمصلحة عليا للإنسان والعمران، وهو ما جاء في الفقه تحت مبحث “العلة” أي “علة الأحكام” ومقاصدها..فالعالَم النظري في الإسلام (أي جملة التوجيهات والإرشادات والتعاليم الدينية) تتجلى قيمته الحق في مدى تطابقه مع ذلك الواقع المعاش وإن كان لا ينخفض به، وهنا تبدو ضرورة التربية على أن “إسلام الإنسان” كمثل أعلى لا يتحقق إلا عند تطابق الأفعال مع الاعتقاد، وغير ذلك يعتبر مرضًا أو خللًا لابد وأن يشعر به المسلم، وأن يشعر بالحاجة إلى العلاج، ويمكن أن نسوق لهذا الجانب التربوي بعض التقريرات التالية:
1 – فالصلاة تجلى قيمتها في اجتناب المصلي المنكرات والفواحش، وعلى هذا فالصلاة لم تشرع لزاهد أو ناسك بمعزل عن الناس أو الشهوات أو المطامع، بل شرعت لمن يقوم بإعمار الكون ويواجه كل هذه الملمات فتقوم الصلاة بتلك الوظيفة في واقع الحياة والكون فالإنسان ينبغي أن يكون على نزاهة خالقه فيترفع عن الإتيان بالمنكرات والفواحش، وهو ما يؤدي إلى انتشار الأمن الاجتماعي والأخلاقي ويشيع مناخ من الترابط الإنساني والكوني، بين الإنسان والإنسان، والإنسان وباقي المخلوقات، والإنسان والطبيعة.
2 – والزكاة لإنجازها تحتاج إلى طريقين، طريق الاكتساب والسعي والعمل في الكون بما يوافق الأخلاق والسنن ليتحصل على المال الحلال [ الذي هو المنبع الحقيقي للزكاة] والطريق الثاني، هو طريق العطاء الإنساني من أجل إعمار الكون –أيضًا- بتلك الفضيلة، فوجها الكد للكسب، والعطاء للعمران هما وجها الزكاة، وفيهما تبرز قيمة تلك الفريضة وتعلو.
3 – والصوم تتجلى قيمته في سيادة “التقوى” الحياة الاجتماعية التي منبعها الفرد الإنساني ولكنها تشع بالضرورة على المجتمع وعلى الأفراد الإنسانيين أيًا كان لونهم أو جنسهم أو دينهم أو عرقهم، بل إن عالم الإسلام النظري يحث المسلم على أن تكون تلك ” التقوى” هي لباسه الدائم أي الخوف من الله من ارتكاب المعاصي –في ذلك الكون- التي قد تحمل ضررًا للإنسان أو الجماد أو الحيوان.
4 – والجهاد لا يعطي قيمة في ذاته إلا إذا كان من أجل هداية الخلق وتحريرهم من الاستبداد بكافة أشكاله وتوفير مناخ ملائم للفطرة الإنسانية كي يحصل الإنسان على السعادة المستحقة والواجبة من تلك الهداية وفيها. ومن ثم فلا قيمة لجهاد من أجل الحصول على الثروات أو استرقاق الناس أو سبي النساء، فالجهاد أحد سبل العمران ومواجهة الفساد في الأرض وتحقيق الحرية والتحرير للنفس الإنسانية من سجون الطغيان والطواغيت التي تمنع وصول الحق والهداية إليهم.
5 – والحج هو تطهير كامل للحياة الاجتماعية عبر عام أو أكثر قد يكون اعتراها بعض الرذائل أو غابت عنها بعض الفضائل، فيذهب المسلم متحررًا من كل ظلم إنساني، وكل رذيلة، وكل نقص فعله خلال عمره فيتحلل منه أولًا قبل ذهابه فتنقى الروابط الاجتماعية ويأخذ أهل الحقوق حقهم –قبل الذهاب- وعند العودة لا يجد إلا ذلك الطهر الطريق الوحيد القابل للمارسة بعد أن قطع قبل الحج أشواطًا وفيه وبعده، فتعود للحياة الاجتماعية طهارتها ويعطى للحج قيمته الحقة، لا يعترف الإسلام إلا بهذا المعنى للحج، وإلا فما معنى البر من ” حج مبرور“؟!! وهذا التطهير يتسم بالدينامية للمجتمع المسلم كله فكل عام يحج بعض من المسلمين حتى يعودوا فتلتحم الحياة الاجتماعية كلها بتلك الطهارة.
التربية على شمولية العبادة واتساعها
مما أصاب الشخصية العربية في عصر التراجع الحضاري هو اختزال مفهوم “العبادة” في الطقوس والشعائر، مثل الصوم والصلاة والزكاة والحج، بل إن عديد من هذه الشعائر فقدت بعدها الاجتماعي ومقاصد فرضها من قبل الشارع جل وعلى، وهو ما ترتيب عليه انفصال المسجد عن الشارع، وانفصال الإسلام ذاته عن الحياة الاجتماعية، على فرضية خاطئة أن سبيل الله غير سبيل الناس.
إن الازدواجية بين الدين والدنيا كانت مسار اختيار المشروع التغريبي، وظّف لها كل وسائل كل وسائل التشكيل الثقافي في العالم العربي والإسلامي والتي كان من أبرزها ميدان التربية التعليم وذلك لخطورته على تشكيل الشخصية فأوجدوا التعليم الديني والمدني، وهو ما انعكس على بناء الشخصية العربية التي فصلت بين الدين والحياة، وأرست مبدأ سلبيًا في باطن المتعلم أن الدين ضد المدنية وضد الحياة.
وهنا تصبح خطورة وظيفة المعلم العربي التي تتمثل في استعادة شمولية مفهوم العبادة واتساعها مرة أخرى كأحد عوامل صحوة هذه الأمة المنتظرة، وكأحد عوامل عودة المسجد للشارع مرة أخرى، وعودة الحياة للدين، أو الدين للحياة.
أما الشعار القرآني الذي ينبغي أن يترجم في صورة أنشطة لدى المتعلمين: معرفية ووجدانية ومهارية واجتماعية وغيرها فهو قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام/ 162]..فهذا الشعار برنامج عمل تربوي وحضاري يستجمع كل نشاط المسلم وحركته منذ الحياة حتى الممات، فهو يشمل النشاط الاقتصادي للمسلم كما يشمل النشاط العبادي المجرد، ويشمل النشاط الاجتماعي كما يشمل النشاط الثقافي، كذلك فإن تواجد المسلم في المسجد في أوقات الصلاة عبادة تماما كما تواجده في المعمل والمدرسة والجامعة، وكذل فإن صوم المسلم عباده تمامًا كما سعيه لإنجاز بحث علمي يفيد البشرية.
كذلك أيضًا فإن معلمنا العربي ينبغي أن يوضح تلك الرؤية العميقة لمسألة الخلق وهدفيتها ومقاصدها، فالعبادة الواردة في قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [ الذاريات/56 ] مفهوم شامل لكل حركة نافعة للبشر تحقق مقاصد الحق في الخلق: الهداية أو التوحيد (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [ الفاتحة/6]، والتزكية أو الطهارة (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) [ الشمس/9]، والعمران أو التشييد (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود/61]، والفلاح أو السعادة (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [ المؤمنون/102].
التنمية العلمية التوحيدية
من بناءات الهوية طرح البعد العلمي من منظور توحيدي، لاسيما في المرحلة التأسيسية للشخصية العربية، فالقراءة التاريخية تؤكد على أن العرب لم يكن لهم شأن يذكر في التاريخ الإنساني قبل مجي الإسلام، ونظرية الدور التاريخي تؤكد “أنه لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.[1] والقرآن أو الدفعة القرآنية هو كلمة السر في البناء الحضاري الجديد، من خلال إعادة صياغة “إنسان الحضارة” أو “الإنسان الجديد” القادر على حمل الرسالة وتبليغها. وذلك بما يمتلكه القرآن من قدرة على تنظيم الطاقة الحيوية للمجتمع وللفرد في إطار حضاري بارز المعالم الاجتماعية والأخلاقية يربط بين أهداف الأرض والسماء، وهو ما حدث في المجتمع الإسلامي الأول ( الشاهد الواقعي/التجريبي) للنموذج المعرفي – المطروح – حيث استطاع الوحي القرآني توفير الشروط الزمنية والنفسية للبناء الحضاري وأخضع الفرد والمجتمع إلى أداء نشاطه بطريقة بالغة التوفيق، وأخضعت رسالة الوحي أيضاً البدوي البسيط لنظامها الدقيق فجعلت منه إنساناً متحضِّراً ومحضِّراً. وأظهرت فعاليتها في إعادة تنظيم وتوجيه الطاقة الحيوية لهذا المجتمع الجاهلي.
والشاهد من هذا القول أن حالة التخلف والتراجع العلمي العربي لن يتم تجاوزها إلا بأمرين أساسيين –وهما مهمة ووظيفة المعلم العربي في ذات الوقت-، الأول: هو انطلاق بعث الروح العلمية في النشء من خلال الوحي ومن خلال مفاهيمه العلمية وإشاراته المنهجية، مثل مركزية مفهوم القراءة والنظر والتأمل والتفكر والسير العلمي، وكافة المفاهيم العلمية الثابتة في القرآن الخاصة بالكائنات الحية (الإنسان والحيوان والنبات) وكذلك الجمادات وقوانين خلقها، أما الأمر الثاني فهو تهيئة المناخ المدرسي والأنشطة المصاحبة لتفعيل مبدئية ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزُّمر:9] بما يثبت في ضمير التلميذ مركزية العلم والبحث عن الحقيقة في كل ميدان يتحرك فيه الإنسان.
ومن وجوه ما يستطيعه المعلم داخل أروقة الصف المدرسي هو تعليم التلميذ منهجية التفكير الراشد المستنبطة من القرآن الكريم ومتطلباتها ومنها:
– رفض كل ما يتنافي مع العقل مثل: التناقضات وجمع الأضداد: استناداً إلى القاعدة القرآنية (لَا يَسْتَوِي) .
– البحث عن الحق والحقيقة، والدلائل والبراهين (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) [النمل:64].
– إحياء فضاء وفضيلة (ويسألونك) والتى وجهت للنبي ﷺ لبيان طبيعة الرسالة وطبيعته.
– البحث عن الأسباب والعلل المؤدية للظواهر بطريقة علمية ومنجهية (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآَتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) [الكهف:84] (فَأَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف:85] (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا) [الكهف:89]، (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا)[الكهف:92].
– تعليم السنن: والسنن هي القوانين الثابتة التي جعلها الله للحياة والإنسان والكون، فلا عشوائية ولا عبثية في الخلق والكون ويجب أن يدرك التلميذ هذه الحقيقة التوحيدية والكونية : (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ){الأنبياء:16} (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:23].
[1] مقولة للإمام مالك بن أنس.