رقة قلب النبي تعد واحدة من أبرز سماته التي تجلت في حياته وسيرته، حيث كان مثالاً للرحمة واللين في عالم يميل للعنف والقسوة.  

في عالم مليء بالمخاشنة في النظر والكلام والتصرف، حيث يُحسب اللين ضعفًا، ويُحضك الناس على العنف حتى لا تأكلك الذئاب، نحتاج إلى قلوب رقيقة لكي ننتقل من الحياة وسط الوحوش إلى المعيشة بين البشر. هذه الأمنية الغالية حققها نبينا ، صاحب القلب الرقيق والمشاعر الفياضة التي أدركت ما يجيش في قلب الطيور، بل شعرت بالجمادات وبادلتها حبًا بحب.

نبه الله تعالى نبيه إلى أهمية رقة القلب وكونه نعمة وسببًا لاجتماع الناس حوله، فقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. أي لو كنت سيئ الكلام، قاسي القلب، لانفضوا عنك وتركوك، ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفًا لقلوبهم[1].

بشاشة النبي وتسامحه

كان النبي بشوشًا، لطيف المعشر، متسامحًا رحيمًا، لا يقسو ولا يعنّت أحدًا، ولا يغضب ولا يسب، وما ضرب أحدًا بيده قط. كان سهلاً في معاملاته، متسامحًا، وطلق الوجه دائمًا[2]. ورغم كونه نبيًا يوحى إليه ومؤيدًا بالمعجزات، إلا أن الفظاظة منفرة، حتى عن اتباع الوحي والهدى. فإذا كانت الفظاظة قد تُنفر الناس من النبي، فكيف بنا نحن ولم نُرزق المعجزات؟ كيف ستكون أحوال من يتعاملون معنا إذا افتقرنا إلى اللين؟

درس في الرقة

علّم النبي أصحابه الرقة، فكان “يجيء من الليل فيسلّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان”[3]. أراد النبي أن يؤدي شعيرة السلام، وفي ذات الوقت يشعر بحاجة النائمين إلى الراحة، فيجمع بين رعاية تعاليم الإسلام ومراعاة خواطر النائمين. هذه المشاعر المرهفة انتقلت منه إلى أصحابه، كما ورد في حديث أنس: “أبواب رسول الله كانت تُقرع بالأظافير”[4] حتى لا يتسببوا في إزعاجه ، فإذا كان طرق الباب بصوت خفيض يسمعه من هو داخل البيت كافيا فلا داعي لإزعاج الآخرين، ونتعلم من ذلك إذا كان صوتنا مسموعا فلا داعي لرفعه.

رقة النبي مع المخطئين

إذا كان الصحابة لا يريدون إزعاج النبي بالصوت المرتفع، فإن الدعاة العاملين الذين يتبعونهم بإحسان إلى يوم الدين لا يريدون إزعاج المخطئ بالقول الغليظ الذي يُشعره بأن النقد لشخصه لا لخطئه. فقد أمر الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بلين الكلام مع فرعون، رغم كفره وادعائه الألوهية. قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]. وبيّن سبحانه ثمار هذا القول اللين لعلّه يتذكر أو يخشى.

رقة النبي مع الأطفال وأمهاتهم

تخبرنا كتب السنة أن النبي لم يتخل عن رقة قلبه حتى وهو داخل الصلاة، لشعوره بخلجات قلب الأم المرتبطة بطفلها. قال النبي : «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي، فأُخفف مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه»[5]. هذا الموقف يعلمنا أن الأئمة والخطباء ينبغي أن يراعوا مشاعر الأمهات اللائي يحضرن الصلاة مع أطفالهن، فلا يشقوا عليهن.

رقة النبي على أمته

كما راعى النبي مشاعر الأمهات، كانت رقته تشمل أمته كلها، من رآه ومن لم يره. روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي تلا قول الله تعالى في إبراهيم عليه السلام: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، وتلا قول عيسى عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118]. ثم رفع النبي يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي»، وبكى، فأرسل الله جبريل ليقول له: “إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك[6]“.

إن رسول الله مشغول بأمته وبمصيرها فهل الأمة مشغولة به ، فإذا سمعوا اسمه في خطبة أو موعظة أو مر ذكره يصلون عليه عملا بقوله تعالى { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56]؟ نبينا مشغول بأمته فهل من يقتدون بسنته ويتمسوكون بهديه مشغولون أيضا بنجاة هذه الأمة من المهالك في الدنيا والآخرة؟ أم تمزقهم الصراعات ويشتد بأسهم بينهم ؟

اهتمام النبي بأمن المسلمين

كانت رقته تجعله مشغولا بمستقبل المسلمين يوم القيامة وكذلك بما يؤمنهم من المخاوف في حياتهم “فَزِعَ أَهْلُ المَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ يَقُولُ: «لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا» وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ، فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ: ” لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا. أَوْ: إِنَّهُ لَبَحْرٌ “[7].

مشهد النبي وهو راكب فرس ما عليه سرج يسير عليه بأقصى سرعة اكتشافا لمصدر الصوت المفزع، ثم عودته وطمأنته للناس، يخبرنا أن الرقة ليست جبنا ولا ضعفا بل هي طاعة لله تعالى وتحقيق لوصف الله تعالى لأمة محمد   {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].

عندما نعامل الآخرين برقة طباع نحن نطيع الله تعالى، هذه الطاعة تجعلنا مستحقين لنصر الله عز وجل وتأييده، وفي هذه الرقة  تقوية للمجتمع الذي يعلي من قيمة التراحم بين أفراده جميعا ومن ثم يستطيعون أن يحموا أنفسهم من كل عدوان عليهم وعلى الحق.

رقة النبي مع الطيور والجمادات

لم تقتصر رقة النبي على البشر، بل شملت الطيور والجمادات. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:” كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ وَمَرَرْنَا بِشَجَرَةٍ فِيهَا فَرْخَا حُمَّرَةٍ[8]  فَأَخَذْنَاهُمَا قَالَ: فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَصِيحُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِفَرْخَيْهَا؟» قَالَ: فَقُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: «فَرُدُّوهُمَا»[9]  شعر النبي بما يجول في قلب الحُمَّرَةٍ من ألم لفقدها صغارها وعبر عن شعورها بالفجيعة  ورق لها وأمر أصحابه أن يردوا صغارها.

بل إن رقة قلب النبي شملت حتى الجمادات. ولقد رق قلبه لجذع نخلة «كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ»[10].

  وفي رواية “فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق وفي رواية أبي نعيم فصاحت النخلة صياح الصبي فنزل النبي {} حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يُسَكّت حتى استقرت “[11].

رق النبي لهذا الجذع الذي سمع الحاضرون صوت بكائه ولم يتوقف الجذع عن البكاء إلا بعد ضم النبي له.

بين رقة القلب والإيمان

الرقة هي علامة الإيمان والسعادة، وغيابها أمارة على الشقاء. فقد قال النبي : “لا تُنزع الرحمة إلا من شقي”[12]. “الرحمة في الخلق رقة القلب، والرقة في القلب علامة الإيمان، فمن لا رقة له لا إيمان له، ومن لا إيمان له شقي، فمن لا يرزق الرقة شقي”[13].

قال ابن العربي: حقيقة الرحمة إرادة المنفعة وإذا ذهبت إرادتها من قلب شقي بإرادة المكروه لغيره ذهب عنه الإيمان والإسلام. قال عليه الصلاة والسلام: ” المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمن جاره بوائقه “. وكما يلزم أن يسلم من لسانه ويده يلزم أن يسلم من قلبه وعقيدته المكروهة فيه فإن اليد واللسان خادمان للقلب اهـ”[14]

قال القرطبي: الرحمة رقة وحنو يجده الإنسان في نفسه عند رؤية مبتلى أو صغير أو ضعيف يحمله على الإحسان له واللطف والرفق به والسعي في كشف ما به…. فمن خلق الله في قلبه هذه الرحمة الحاملة على الرفق وكشف ضرر المبتلى فقد رحمه الله بذلك في الجنان وجعل ذلك [دليلا] على رحمته إياه في المآل فمن سلبه ذلك المعنى وابتلاه بنقيضه من القسوة والغلظة ولم يلطف بضعيف ولا أشفق على مبتلى فقد أشقاه حالا وجعل ذلك علما على شقوته مآلا نعوذ بالله من ذلك “[15]

نحو قلب رقيق

لكي نصل إلى رقة القلب، نحتاج إلى مجاهدة وصبر. فمن ابتلي بقسوة القلب يمكنه تغيير هذه الصفة الذميمة. عليه أن يقر بوجود هذا الداء ويسعى للتخلص منه، ويحتاج إلى صبر وجهد. من أفضل الطرق لتليين القلب هو الإحسان إلى اليتامى بإخلاص، والعمل على تخفيف آلام الآخرين دون انتظار مقابل.