يغذي شهر رمضان الشعور الديني للمسلم بنفحاته المباركة، فتنشط النفس لألوان العبادات، وتُقبل الروح على بارئها ملتمسة غفران الزلل، وطي صفحة ملتاثة بالذنوب والمعاصي.
وكما ينشط فؤاد المسلم وجوارحه، فإن مواهبه الفنية تتحرك راصدة ما يثيره الشهر الكريم من معان إنسانية، وخواطر إيمانية، وتأملات فكرية في مقاصد الوجود الإنساني. وما أحسن قول الإمام ابن الجوزي رحمه الله: الصوم ثلاثة: صوم الروح وهو قصر الأمل، وصوم العقل وهو مخالفة الهوى، وصوم الجوارح وهو الإمساك عن الطعام والشراب والجماع.
هي ثلاثون يوما من مكابدة الشهوات، وسطوة النفس على المادة، وقطع العلائق مع كل ما يستعبد بدن الإنسان، ويجعله تابعا للبطن وما حوى.
لكنها في الآن نفسه ثلاثون يوما من التحليق في سماء الفكرة والعبرة، والتدبر في أسرار الصيام وما تُنبّه إليه من فروض البر والرحمة والإنسانية.
العقاد: الصوم تقرير للذات
في مقالة بعنوان (الصيام بين تقرير الذات وإنكارها)، يذهب الأستاذ عباس محمود العقاد إلى أن الإنسان لا يستقل بنفسه وكيانه إلا حين يمتنع، ويتصدى للتيار الذي يحيط به. هناك فقط يجد نفسه، ويشعر بمعنى رفيع هو أسمى معاني الحياة. فالصوم، الذي يرجح الكاتب بدايته كأحد طقوس عبادة الموتى، رياضة للنفس تجردت من الضلالات الأولى لتمتزج بالتصوف الفلسفي، وتعينَ النساك والحكماء على استكناه خفايا الوجود وحقائقه، من خلال إنكار الذات، والتقرب إلى الله بالعزوف عن مغريات الحياة.
لكن العقاد يتساءل: هل الصوم حقا من دواعي إنكار الذات المتنبهة، أو هو من دواعي إثباتها وتوكيدها؟
إن الصوم يظهر في جانب منه بمظهر إنكار الذات، لكنه في الواقع حيلة نفسية لتأكيد وجود الذات وعزتها. فالذي يرخي العنان لشهواته يبدو في الظاهر مكرما لها، لكن الحقيقة أنه مبتذل ومحتقر لها، فهي لا تهتم في الحياة بخير مما يهتم به عامة الناس.
ولتأييد موقفه يضرب العقاد مثالا بالناسك الذي يتمرد على ضرورات الحياة بالزهد والقناعة، ثم يرتقي بسلوكه حتى يرى في الزهد لذة إيجابية، تأبى الخضوع لما يخضع له سائر الناس عن رضا وطواعية.
محمود شاكر: الصوم عبادة الأحرار
يرد الأستاذ محمود محمد شاكر أصل البلاء الذي عم بلاد المسلمين، ومزق وحدة صفهم إلى سوء التفسير الذي لحق معاني العبادات وفي مقدمتها الصيام. فهذه العبادة الجليلة حصر الناس مقاصدها في معنى الطعام، بالتخفف منه ليصح البدن، ومواساة الفقير لتأتلف القلوب، ثم تزول آثاره في النفس والمجتمع بزوال رمضان.
في مقالة بعنوان: (عبادة الأحرار) يجرد الكاتب دلالة الصوم من معاني المعدة وسلطان الشهوات، ليضفي عليها معنى أجلّ، يليق بطاعة خالصة بين العبد وربه، فقيرا كان أم غنيا. إن الصوم برأيه هو عتق النفس الإنسانية من كل أشكال الرّق: رقّ الحياة، ورقّ الأبدان، ورقّ العقول، ورقّ النفس. يقول الكاتب:” تحرير النفس المسلمة هو غاية الصيام الذي كتب عليها فرضا وتأتيه تطوعا. ولتعلم هذه النفس الحرة أن الله الذي استخلفها في الأرض، لتقيم فيها بالحق، ولتقضي فيها بالحق، ولتعمل فيها بالحق، لا يرضى لها أن تذل لأعظم حاجات البدن لأنها أقوى منها.
ويستدل الكاتب على تلك الصلة بين الصيام والحرية بأحكام القرآن التي جعلت الصيام معادلا لتحرير رقبة، وكيف أن الله تعالى كتب على من ارتكب شيئا من تلك الخطايا أن يحرر رقبة مؤمنة من رق الاستعباد، فإن لم يجد فليعمل على تحرير نفسه من مطالب الحياة، ليكون الصوم في أسمى معانيه تهذيبا للأحرار.
الرافعي وفلسفة الصيام
لو كان الصيام نوعا من الطب فقط، يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي، لكانت أيام رمضان ثلاثين حبة، تؤخذ في كل سنة مرة لتقوية المعدة، وتصفية الدم، وتجديد الأنسجة. لكن خلف هذه الفكرة الإسلامية حقائق تتجدد في كل زمان، لتجعل هذا الدين طبيعيا سائغا، يوجه الحياة بأسرار العلم إلى غاياتها الصحيحة، ويحقق لهذا العالم إنسانيته التي عجزت عنها كل المذاهب الاجتماعية.
تحت عنوان: (شهر للثورة.. فلسفة الصيام) سعى الرافعي إلى تحديد الأبعاد الفلسفية لشهر رمضان، وما تنطوي عليه عبادة الصيام من حكم ودلالات. إذ يعكس هذا الشهر نظاما عمليا يتخذ من الصوم فقرا إجباريا ليتساوى الجميع في حرمان البدن من شهواته، والصلاة ليتحرر الجميع من الكبرياء، والحج لتتداعى مظاهر التفاوت الاجتماعي.
إن نكبة الإنسانية تأتي من البطن، يقول الرافعي، لذا يتناولها الصيام بالتهذيب والتأديب، ويتخذ من الجوع طريقة عملية لتربية الرحمة في نفس الجائع الغني إزاء الجائع الفقير. وبهذا السر الاجتماعي للعظيم للصيام تتحقق المساواة التي مبدؤها الأمر لا الرجاء.
ومن حِكم الصوم كذلك تربيته للإرادة، حيث يتدرب الصائم على الامتناع عن شهواته باختياره. وفي هذا التدريب العملي يبلغ منزلة اجتماعية سامية، تفوق منزلة الذكاء والعلم. ولو عمّ الصوم أرجاء الأرض لأصبح رمضان بمثابة إعلان سنوي للثورة على رذائل العالم وفساده، وتطهير للنفس الإنسانية حتى تسترجع صفاءها وإشراقها.
الزيات: رمضان والمدنية الحديثة
في إحدى افتتاحياته لمجلة “الرسالة” الشهيرة، أثار الكاتب أحمد حسن الزيات شكوى لطيفة حول النفحات الاجتماعية لرمضان، وما يرتبط به من عادات ومظاهر احتفال وتكريم للشهر الفضيل. تلك النفحات التي بدت ثقيلة على طبع المدنية الحديثة، فجرّدت رمضان من غبطته بأن جعلته رديفا لقلة الإنتاج، وشلّ الحركة، وقتل الصحة.
ما تحياه المدنية الحديثة اليوم هو رمضان رقيق الدين، باريسي الشمائل. يبيح النظرات المريبة والأطعمة الدسمة، ويستوي فيه قارئ القرآن مع “راديو” يرجّع أصوات الغناء، وحاكٍ يردد أهازيج الرقص!
أما رمضان الذي هو نفحة من نفحات السماء، وتوثيق لما بين القلب والدين فمنفي في أحياء العمال وقرى الفلاحين. تتجسم في خواطر الناس صورته كأنه رجل له حياة وعمر وأجل، فيحسبون له حسابه قبل مقدمه، ويهيئون أسبابه. حتى إذا أقبل سرى في القرية شعور تقي وهادئ، فلا تسمع لغوا ولا خصومة، ويستعيد الفلاح فطرة الوليد فلا يأتي منكرا، ولا يقرب من فاحشة.
نهارهم يقضونه في تصريف أمور المعاش، وليلهم في سماع القرآن، واستقبال الإخوان، والمسامرات الساذجة التي تمزج فنونا من شهي الحديث. وعلى هذه الحال تمضي أيامه، حتى إذا لم يبق إلا ربعه الأخير ندبه الناس في البيوت والمساجد، ورثوه على السطوح والمآذن، وبكوه يوم (الجمعة اليتيمة) أحر بكاء.
كلما مضى عام إلا وتجددت شكوى الزيات، وتاقت النفوس إلى استقبال رمضان كما تدركه الفطَر السليمة والقلوب المؤمنة، وتوديعه بما يليق بضيف عزيز. وما أجملها من صورة، تلك التي يصف فيها الكاتب جلوس الصبيان على أبواب الغرف، يكررون البسملة، ويضربون الحديد بالحديد، ليحفظوا بيوتهم من دخول الشيطان المريد!
مصطفى السباعي: رمضان يودّع
في فصل من كتابه (أحكام الصيام وفلسفته)، وضمن قالب حواري ممتع، أفسح الدكتور مصطفى السباعي مجالا لرمضان كي يتحدث، ويبث خواطره وآلامه، بعد أن جرت عادة الكُتاب بالحديث عنه.
وفي المحاورة يرتدي رمضان ثوب الزعيم المصلح، والقائد المهموم بصلاح أمته واستعادة دورها الحضاري الرائد. لذا كان مستهل حديثه عن أطوار الأمم، وما يدب إليها من عوامل الضعف والتخاذل، وما يجب عليها من سعي إلى البحث عن أسباب القوة لدى أمم أخرى، لتتخذ منها سلما إلى سماء العظمة.
إن أسباب الرفعة، كما عاشها المسلمون الأول، هي الخشية من الله عز وجل، وانصرافهم عن ملذات الحياة لتحقيق مطلب أسمى هو إعلاء كلمة الله في الأرض. وإذا كانت روح اليقظة تتجدد في المسلمين اليوم، إلا أنهم بحاجة إلى العين البصيرة التي توحّد الرأي، وتوجه الفكر، وترى الإسلام قانونا كليا لا يتجزأ.
يقول رمضان مودعا: أيها المسلمون إن الحياة نعمة لا يستحقها إلا الشاكرون، وما الشكر عليها إلا صمود لنوائب الدهر، ويقظة لدسائس العدو، وعمارة للأرض بنشر دين الله في أرجائها.
وداعا أيها المسلمون، فقد أضنى الأسى كبدي، وقرح البكاء جفوني..
وداعا أيها المسلمون، فسألقى اليوم ربي أشكو إليه ذل التوحيد، وعز الشرك، واضطهاد الهدى، وقسوة الأقدار، وموت الضمائر!