الحديث عن أجواء رمضان في الصين لا ينفك عن إلقاء نظرة ولو خاطفة على واقع الإسلام هنا، واقع هو نتاج مسيرة من الألم والأمل، العظمة والحزن..النضال والاستكانة.
فوسط محيط بشري هادر وعِرق إنساني غامض وانطوائي، مخرت سفينة الإسلام في الصين على مدى قرون من الزمان ليستقر واقع المسلمين اليوم على أقلية مِن ثلاثين مليونا تصارع من أجل المحافظة على ذاتيتها في الوقت الذي تسعى لتحسين وضعها الاقتصادي، وقد أتاح الانفتاح الاقتصادي للصين منذ نهاية الثمانينات فرصة للمسلمين هنا قد تؤهلهم لمشاركة أوسع في مستقبل بلدهم.
الخريطة
في الصين تسع قوميات مسلمة أهمها قومية “خوي” وهم موجودون في الوسط والجنوب، ويقال إن هذه القومية خليط من العرب (بقايا جنود قتيبة بن مسلم والتجار الوافدون ) والصينيين ، وقومية الايجور الذين يسمون الآن (سينكيانغ) وهم في الشمال الغربي.
وهناك مسلمون من قوميات الطاجيك والتتار وغيرهم منتشرون في الشمال، هذا فضلا عن المسلمين الجدد..وللمسلمين وجود كبير في “نينشا” و”كانصو” وكلها أقاليم فقيرة.
ولعل الادعاء بالقدرة على تصنيف الصينيين المسلمين صعب، ومع ذلك فقد بدا لي أنهم أصناف ثلاثة: متدينون رساليون بعضهم صحويون وأغلبهم خريجو المدارس المسجدية (إسلام رسالي صيني خالص)، وعامة “تدينهم” به الكثير من الدخن والقصور ولكن لهم عاطفة إسلامية، وطرقيون أصحاب بدع وانحرافات.
مهما بلغت رقة دين الصيني المسلم فإنه لا يشرب الخمر ولا يأكل لحم الخنزير؛ قد يترك الصلاة ولكنه لا يأكل إلا الطعام الحلال، وسر ذلك هو هاجس الهوية والخوف من ابتلاع التنين، ولذلك يكتبون “حلال” هنا على كل شيء حتى على الخبز والماء..!! والألوان الخضراء هي التي تميز محلات المسلمين مقابل اللون الأحمر الذي هو سيد الألوان هنا.
الأجواء الرمضانية
وعند الحديث عن رمضان في الصين، فالواقع المشار إليه سابقا له انعكاس على حجم المظاهر الرمضانية، فالمساجد في الصين عزيزة في المدن، فلم يبق منها سوى القليل بعد “الثورة الثقافية”، ولكن المتجول في الأقاليم المسلمة يلاحظ وجود المصليات في القرى والأرياف بكثرة..
الأذان عزيز أيضا، وفي ايوو (حيث أقيم ) سمحوا للمسجد الكبير بالأذان في غير صلاة الفجر.
المصليات معمورة في رمضان سواء في ذلك صلاة الفجر وغيرها من الصلوات المكتوبات وصلاة التراويح ، وخصوصا من طرف الشباب الذين يفاجؤونك بقدرتهم على قراءة القرآن من المصحف حين كنت تعتقد أن أقلية منهم هم من يستطيع تهجي العربية.
ومما يلفت الانتباه الإكثار من النوافل عند المسلمين الصينيين، ومن ذلك مبادرتهم إلى التنفل مباشرة بعد كل صلاة قبل أذكارها، وهو أمر أعتقد أن له صلة باختيار الأحناف ..وسبق أن لاحظته عند غيرهم كالأتراك..ولا أدري هل هو “طقس” فروعي أم له مستند وأصل في المذهب؟!.
والمصليات تدار من إمام المسجد ولجنة معاونة تنتخب في المساجد الكبيرة، وتشرف على ذلك الحكومة في مدينتنا، والمسجد الكبير في ايوو هو المشرف على الشؤون الدينية كإصدار النشريات ومراقبة الأهلة، وبه وحده تقام صلاة العيدين.
الأئمة الصينيون متفاوتو القدرات العلمية، وبعضهم مجاز في بعض القراءات، وغالبهم خريجو المدارس الدينية التي ظلت نواة الإسلام في هذا البلد، ولا تزال تخرج الأئمة والدعاة..وللمدارس المسجدية قصة تستحق أن تروى، أتى على طرف منها الأستاذ فهمي هويدي في كتاب له عن الإسلام في الصين..
مدينتنا هي مدينة التسامح الديني لاعتبارات اقتصادية، وهذا مادعى بعض الصينيين لأن يقول: ” يوم المسلمين يوم جيد ( يقصد الجمعة ) فيه تكثر مشاوير سيارات الأجرة وتقام على أطراف المسجد المطاعم والأسواق، أما المسيحيون فيومهم باهت “.
البطيخ .. والسحور
من المظاهر التي لاحظت وحكيَّ لي عنها، محورية وجبة السحور لدى الصينيين، فهم لا يتنازلون عنها لأي اعتبار، وهي طقس ضروري لا يفوتونه، ولا أدري هل الأمر بقية من حرص على التسنن والوصايا النبوية، أم لعلاقة الصيني بالطعام حيث يصل متوسط الوجبات الصينية لخمس وجبات في اليوم الواحد، أما الفطور فغالبا مايحرصون عليه بشكل جماعي في المساجد، ولفاكهة البطيخ (الدلاحه) حضور قوي فيه ربما لسخونة الطقس في الصيف ولضعف تحمل الصيني لحرارته.
الجاليات العربية
في الصين تصادف غالب مواطني البلدان العربية جاءوا للعمل الدائم والإقامة، البعض حرص على الاحتفاظ ببلده معه فيصطحب هؤلاء عوائلهم، ويدرسون أبناءهم في مدارس عربية..ولبعضهم مصليات خاصة بهم تقريبا، كحال الجاليتين اليمنية والموريتانية.
إنهم يحاولون استزراع حياة عربية في وسط صيني، ومع ذلك فالتبادل هنا ليس تجاريا فحسب بل وثقافي أيضا، لذلك تجد الصيني يرتاد المطاعم العربية ويدخن النارجيلة في مطعم مصري خالص، ومن الطريف أن صينيا حدث صديقه العربي : هيا لقد أصبحت مسلما؛ إنني آكل اللحوم الحمراء وأدخن النارجيلة..!، وبالمقابل هناك شباب عربي تزوج صينيات فَلَو زرت أحد هؤلاء في بيته لقيت نمطا ثقافيا مختلفا أساسه المطبخ الصيني..!
الجالية الموريتانية جالية محافظة ومغلقة في عمومها وأفرادها متدينون ، يشكل رمضان لأهلها فرصة نوعية للتلاقي اليومي عند صلاة التراويح التي يحرصون على أدائها في مصلى خاص بهم تقريبا، وينضم إليهم أفراد من الجالية السنغالية من بينهم شاب صغير ضحوك الوجه حافظ لكتاب الله حسن الصوت.
وما يميز شهر رمضان في الصين، إحياء العشر الأواخر إحياء خاصا بالتهجد والسحور الجماعي، وربما نظم معتكف جماعي، تختم صلاة التراويح كل ليلة بدرس ويفتح المجال بعده للمستفتين، وقد قال أحد الظرفاء يوما من فضلكم لا تسألوا عن التزوير.