مع تجدد الحلول البهيج لرمضان يثار سؤال حارق مفاده: كيف نستثمر الأوقات في شهر الصيام، ونحافظ على إيقاعها المفعم بحلاوة الطاعة بعد انصرامه؟ طبعا يبدو الجواب أقرب للمرء من شراك نعله، فعشرات المواد الإعلامية تثير كل سنة مسألة البرنامج اليومي للمسلم في هذا الشهر الفضيل، وكيف أن وقته ينبغي أن يتوزع ما بين الذكر وتلاوة القرآن وصلاة التراويح، وصولا إلى مرحلة شد المئزر للظفر بثواب العشر الأواخر. فكيف يتم استثمار شهر رمضان؟
الحديث عن استثمار دورة شهر رمضان التدريبية بعد انقضائه، يثير سؤال الزمن في حياة المسلم، والحاجة لأن يستمد حركته من إدراك سليم للحكمة الإلهية من ربط الشعائر بأزمنة معلومة، لها شرفها وبركتها التي تغذي وجوده بمعاني الطمأنينة والسكينة. والحال أن السلف كانوا أبلغ في استشعار هذا المعنى بشأن رمضان، وأشد حرصا على أن تكون ساعاته مضمارا للتنافس في الطاعات والتسابق إلى الخيرات، لذا كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يُبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبل منهم!
إن من مظاهر حياتنا الاجتماعية في رمضان أن يتم تبديد أغلب ساعاته في حركة ليس من مقصدها طلب الأجر والثواب. وأن يذعن المسلم طوعا أوكرهاً، لبرمجة تتولاها شركات الإنتاج السمعي والبصري، لتستنزف يومه وليلته في التسلية والفرجة، وتفريغ الصيام من مقاصده الحقة. وإن لم يكن في هذا النهج اليومي إلا ضياع ساعات ثمينة لكان مدعاة للحسرة والأسف، فكيف والضرر يمتد للقيم التي من المفروض أن يغذيها الصوم ويجدد أثرها في النفوس؟
مر الحسن البصري على قوم في رمضان وهم يضحكون ويلعبون. فقال لهم: “إن الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه، يتسابقون فيه لطاعته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب المبطلون.” فكأن الضاحك اللاعب يتموضع خارج سياق يتسم بالاحتدام والتنافس، واستشعار ما تنطوي عليه الدقائق و الثواني من منفعة وآثار جليلة، وحسم للنتيجة في آخر المطاف.
ترشدنا كتب الحديث والفضائل الإسلامية إلى عشرات التوجيهات النبوية، ومواقف الصحابة التي تنص على تحري الأوقات الفاضلة، وبذل الجهد والطاعة فيها لما تمتاز به من خصائص روحية. فساعات السحر، أوالثلث الأخير من الليل، خَصّها الله تعالى بنزول يليق بجلاله، ليجيب السائل، ويقبل توبة التائب، وفي الحديث الذي يرويه الترمذي وغيره عن عمرة بن عبسة، يقول النبي ﷺ: ﴿ أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن﴾.
وَوصْفُ الحسن البصري لرمضان ب”مضمار الخلق” يؤكده حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي ﷺ حين قال، وقد حضر رمضان:﴿ أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء. ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرا، فإن الشقي من حرم فيه من رحمة الله عز وجل﴾.
ولا يتحقق فيه التنافس إلا بنظام حياة يومي حدده النبي ﷺ، فيما يرويه عن صحف إبراهيم: ساعة لمناجاة ربه، وساعة محاسبة نفسه، وساعة للتفكر في صنع الله، ثم ساعة لحاجته من طعام وشراب.
إن رمضان محطة لتفاوت الأعمال، وتباين الجهود ما بين مثابر ومُقَصر. ومنشأ هذا التفاوت هو الغفلة والتسويف. فالغفلة تُذهل الإنسان عن حقيقة أن عمره ليس سوى حزمة أيام، وكل يوم مضى لن يعود، والعاقل من يُوثق في مذكرة يومه من العبادة والعمل الصالح ما يجد ثوابه غدا في صحيفة أعماله، لذا كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: “ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي”.
وأما التسويف فهو إحدى آفات العصر، ومحصلة التشبع بثقافة مادية ترهن الحضور المجتمعي لحاملها بما يحققه من كسب مادي وحرث دنيوي. فظهرت أفكار وتمثلات خاطئة، تؤجل تفرغ المرء لطاعة ربه إلى خريف العمر، وتُوهِم شباب المسلمين بأن الشيخوخة هي أنسب المراحل للندم والتوبة وطلب المغفرة!
خلف هذا الشرف والفضل الذي خص به الحق سبحانه الزمن الرمضاني، تكمن آثار تربوية و مكاسب اجتماعية، يُعوَّل عليها ليستعيد المسلم المعاصر خط سيره، ويحسن المعادلة بين ساعات ربه وساعات قلبه، ويحصي دقائق عمره حتى لا يُضيع وقته في غير فائدة، فإن من علامة المقت إضاعة الوقت كما قيل!
من أهم المكاسب التربوية في مسار استثمار شهر رمضان أن يقف المرء على حقيقة الشهوات وما تُوَرثه من غفلة وقسوة، فيكون تركه للمباح في رمضان وسيلة لترك الحرام والحد من الانغماس في الملذات.
ومنها أن الصوم لا يتحقق إلا بحفظه من الآفات السلوكية التي تمحق ثوابه، كالغيبة والرفث والفسوق وقول الزور وغيرها ، وبذلك يجدد رمضان الصلة بين العبادة وأثرها على السلوك الاجتماعي.
ومنها أيضا أن البرنامج اليومي للصائم ينبني على مهام فعالة تهذب جسمه وروحه، وتُشعره بأنه عنصر فعال في المجموعة. وحين يسري هذا الإحساس في أوصال المجتمع برمته فإن الوقت يسترد أهميته، وإذا جرى استغلال الوقت هكذا ولم يمر كسولا في حقلنا، كما يقول مالك بن نبي، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة !