في سجلّ الحضارات الإنسانية، يبرز الوقف الإسلامي كظاهرة فريدة من نوعها: ليس مجرد تبرّع خيري، بل نظامًا مؤسّسيًّا متكاملاً حوّل الخير الفردي إلى طاقة حضارية جماعية. وفي هذا السياق، يطلّ كتاب “روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية” للدكتور راغب السرجاني كوثيقةٍ توثيقيةٍ وتحليليةٍ تُعيد إحياء ذاكرة الأمة على واحدة من أعظم منظوماتها الاجتماعية والاقتصادية.
يأتي كتاب “روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية” في لحظةٍ حرجة، حيث يبحث العالم الإسلامي عن نماذج أصيلة للاستقلال المجتمعي، والتكافل الاجتماعي، والتنمية المستدامة — فكان الوقف، في رؤية السرجاني، ليس ذكرى من الماضي، بل خريطة طريق للمستقبل.
الرؤية العامة لكتاب “روائع الأوقاف في الحضارة الإسلامية”
لا يكتفي المؤلف بسرد الوقائع أو ذكر الأمثلة، بل يبني رؤية تحليلية متكاملة تُظهر كيف حوّل المسلمون الوقف من فعلٍ فرديٍّ إلى آلة حضارية بُنِيَت بها المدارس، والمستشفيات، والمكتبات، والمساجد، وجُسِّدت من خلالها قيم التكافل، والاستقلال، والمسؤولية الجماعية. ويؤكد أن الوقف لم يكن حكرًا على الأثرياء أو الحكام، بل شارك فيه كل أطياف المجتمع: من المرأة البسيطة إلى السلطان، من التاجر إلى العالم، من الشيخ إلى الفتاة اليتيمة.
محاور الكتاب الأساسية
أولًا: روائع التشريع الإسلامي في الوقف
يبدأ السرجاني من الجذور، فيستعرض الأساس الشرعي للوقف، مستندًا إلى قول النبي ﷺ: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية…». ويوضح كيف أن التشريع الإسلامي حوّل الوقف من عادة قبلية إلى نظام قانوني دقيق، يُنظّم ملكية العقار، ويضمن استمرارية المنفعة، ويُلزم القيّمين بالشفافية والنزاهة.
ثانيًا: روائع الاستنباط الفقهي
يعرض المؤلف عبقرية الفقهاء في تطوير أحكام الوقف عبر العصور، من خلال:
• تنويع أنواع الوقف (الوقف الخيري، الوقف الأهلي، الوقف المشترك).
• ابتكار آليات لإدارة العقارات الوقفية (كالإجارة، المزارعة، المضاربة).
• وضع ضوابط صارمة لحماية أموال الوقف من التلاعب أو التبديد.
ويشير إلى أن هذا الفقه الحيّ جعل الوقف مرنًا يواكب تحوّلات الزمن، دون أن يفقد جوهره الأخلاقي.
ثالثًا: عبقرية الإدارة الوقفية عبر العصور
يأخذنا السرجاني في رحلة تاريخية من عصر النبي ﷺ، حيث وقف “بئر رومة”، مرورًا بعصر الخلفاء الراشدين، وعصر الدولة الأموية والعباسية، ووصولًا إلى العصر العثماني، ليُظهر كيف تطوّرت آليات إدارة الوقف من بساطة إلى تعقيد مؤسّسي مذهل. ويعرض سجلات وقفية أصلية تُثبت أن بعض الأوقاف استمرّت لمئات السنين دون انقطاع.
رابعًا: تنوع الأوقاف وشموليّتها
يُبرز الكتاب أن الوقف لم يقتصر على المساجد، بل شمل:
• المدارس والجامعات (كالأزهر، والمدارس النظامية).
• المستشفيات (كالبيمارستانات في دمشق والقاهرة).
• المكتبات العامة (كالمكتبة الظاهرية في دمشق).
• الخدمات العامة: السبل (نوافير المياه)، القناطر، الحمّامات، الفنادق (الخانات)، وحتى أوقاف الحيوانات (كأوقاف العلف للطيور والقطط!).
خامسًا: مشاركة الجميع – أفقيًّا ورأسيًّا
يؤكد السرجاني أن الوقف كان ظاهرة شعبية حقًّا:
• رأسيًّا: شارك فيه السلطان والوزير، والتاجر والصانع، والمرأة والأرملة، والطفل اليتيم.
• أفقيًّا: امتدّ من المشرق إلى المغرب، ومن آسيا إلى إفريقيا، ليشكّل شبكة تضامن إسلامية عابرة للحدود.
المنهجية والأسلوب
يعتمد السرجاني على:
• المصادر الأصلية: ككتب الفقه، سجلات المحاكم الشرعية، كتب التراجم، والرحلات.
• التحليل التاريخي: لفهم تطور الظاهرة عبر الزمن.
• السرد القصصي: لجعل الوقائع حيّة ومُلهمة.
ويتميّز أسلوبه بالوضوح، والعاطفة المُحكمة، والقدرة على ربط الماضي بالحاضر دون اجترار أو نوستالجيا سطحية.

الرسالة الأساسية
الكتاب ليس مجرد تأريخ، بل دعوةٌ لإحياء الوقف في عصرنا. ففي زمنٍ تعاني فيه الدول من عجز في تمويل التعليم والصحة، يبقى الوقف الإسلامي البديل الحضاري الذي يجمع بين:
• الأجر الديني (الصدقة الجارية).
• المنفعة الاجتماعية (خدمات مجانية للجميع).
• الاستدامة الاقتصادية (عوائد مستمرة من الأصول).
الوقف… مشروع نهضة
يختتم السرجاني برسالة واضحة: الوقف ليس ذكرياتٍ في كتب التاريخ، بل مفتاحٌ لنهضة قادمة. فحين يعود المسلمون إلى فهم الوقف كـاستثمار أبدي، لا كصدقة عابرة، فإنهم يبنون مجتمعًا لا ينتظر المعونة، بل يُنتج الخير ويُوزّعه بعدل.
________________________________________
من هو الدكتور راغب السرجاني؟
الدكتور راغب الحنفي راغب السرجاني داعية إسلامي مصري مهتم بالتاريخ الإسلامي ومشرف موقع “قصة الإسلام”، أستاذ مساعد جراحة المسالك البولية بكلية طب جامعة القاهرة، ولد في مدينة المحلة الكبرى بمحافظة الغربية عام 1964م، وهو مؤلف كتاب “قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط” والمؤلف لـ 117 كتب أخرى.
تخرج في كلية الطب جامعة القاهرة عام 1988م بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، أتم حفظ القرآن عام 1991 م، حصل على الماجستير عام 1992 ثم الدكتوراه عام 1998م بإشراف مشترك بين مصر وأمريكا.
فاز بعدة جوائز وله جهوده في الدعوة إلى الله من خلال تصحيح ونشر التاريخ الإسلامي، يشارك في العديد من المؤتمرات الإسلامية العالمية التي تعقد في أمريكا وكندا وغيرها من دول العالم، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية.
يقدم عدة برامج وحوارات على الفضائيات والإذاعات المختلفة؛ منها: اقرأ، الرسالة، الحوار، الناس، القدس، المستقبل، العربية، الجزيرة، الجزيرة مباشر، والسودان، وإذاعة أم القوين، وإذاعة القرآن الكريم بفلسطين والأردن ولبنان والسودان والإمارات، وغيرها.
له مئات المحاضرات والأشرطة الإسلامية؛ يتحدث فيها عن السيرة النبوية والصحابة، وتاريخ الأندلس، وقصة التتار، وغير ذلك.
ومن مؤلفاته:
صدر له حتى الآن 38 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي منها:
- من هو محمد ﷺ؟
- ماذا قدم المسلمون للعالم؟
- الرحمة في حياة الرسول ﷺ
- المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب
- فن التعامل النبوي مع غير المسلمين
- قصة الأندلس
- قصة الحروب الصليبية من البداية إلى عهد عماد الدين زنكي
- العلم وبناء الأمم – دراسة تأصيلية في بناء الدولة وتنميتها
- أخلاق الحروب في السنة النبوية
- قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية
- رحماء بينهم – قصة التكافل والإغاثة في الحضارة
- رسالة إلى شباب الأمة.
- كيف تحافظ على صلاة الفجر
- كيف تحفظ القرآن الكريم
- القراءة منهج حياة
