قد يظنّ بعض الناس أنّ الروايةَ بالمعنى – التي رخص فيها جماهير أئمة الحديث- إنّما هي تغييرُ جميع ألفاظ النبيّ ﷺ بألفاظ الراوي المرادفة لها، وهذا غير دقيق، يحتاج إلى ضبط، فليس المراد من الرواية بالمعنى تغيير كلّ كلمات الحديث بمرادفاتها – كما هو الواقع الحديثي-، ولا أحسب أنه يوجد حديث استبدلت جميع ألفاظه بألفاظ الراوي، فإن وجد، فإنّ ذلك يصير كالشرح للحديث، وإنّما الرواية بالمعنى- كما يشهد الواقع- تغييرٌ يحصل في الكلمة والكلمتين وربما تزيد قليلًا، حتّى الأحاديث الطويلة نسبيّا، فإنّنا نرى التغيير يحصل في بعض الكلمات، وتبقى ألفاظ الرواية تامّة.
ثمّ إنّ الرواية بالمعنى في زمن الصحابة تجري في الأحاديث الفعليّة أكثر، وبقلّة منها في الأحاديث القوليّة، أمّا الفعليّة فهذا أمر طبيعيّ، فكلّ راو يحكي ما بلغه بصرُهُ وما أحاط به، بل يتعذّر على الناس وصف أمر بعبارة متّحدة، ويبقى القسم الآخر، وهو الأحاديث القوليّة فهذا الذي فيه البحث والنظر[1].
وقد زعم مستشـرقون ومن تبعهم أنّ في رواة الصحيحين وغيرهما رواة أعاجم، وهؤلاء الأعاجم لا ريب أنّهم قد رووا بالمعنى، فحرّفوا الأحاديث.
شروط المحدثين الصارمة لمن يروي بالمعنى
والجواب: لا يخفى على الدارس أنّ أهل الحديث قد شدّدوا في الرواية بالمعنى، واشترطوا في الراوي معرفة اللغة، وقد نصّوا على أنه يشترط فيمن يروي بالمعنى- مع العدالة والضبط- أن يكون عالما بما يحيل المعاني[2]، بل شدّدوا في الأمر بتعلّمها وحرصوا على ذلك. قال الخطيب البغداديّ: (فينبغي للمحدّث أن يتّقي اللحن في روايته للعلة التي ذكرناها، ولن يقدر على ذلك إلا بعد دراسة النحو ومطالعة علم العربية)[3].
وإنّ منهم من كان يشرط على من يروي عنه أن يكون عارفًا باللغة، ومن ذلك ما روى الخليليّ في الإرشاد عن العباس بن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: (جاء عبد العزيز الداروردي في جماعة إلى أبي ليعرضوا عليه كتابًا، فقرأ لهم الدراوردي، وكان رديء اللسان يلحن لحنا قبيحا، فقال أبي: ويحك يا دراوردي، أنت كنت إلى إصلاح لسانك قبل النظر في هذا الشأن أحوج منك إلى غير ذلك)[4].
موقف الأئمة من اللحن (الخطأ النحوي) في الحديث
واستعظم الأئمّة المحدِّثون اللحنَ في الحديث واستهجنوه جدّا، ومن ذلك ما جاء عن أبي الموفق، قال: (كنت عند أبي شيبة وعنده رقبة، وكان يلحن لحنًا شديدا، فقال رقبة: لو كان لحنُك من الذنوب كان من العظائم)، وفي رواية أخرى: (لو كان لحنك من الذنوب لكان من الكبائر)[5].
ومنهم من منع أن يروى عنه باللحن، ومن ذلك ما روي عن حماد بن سلمة- فيما رواه عنه عفان بن مسلم- قال لإنسان: (إنْ لحنت في حديثي فقد كذبت عليّ، فإني لا ألحن)[6].. وروى الرامهرمزي نحو هذا عن الحسن بن عليّ الحلواني، قال: (ما وجدتم في كتابي عن عفان لحنا فعرّبوه، فإن عفان كان لا يلحن. وقال لنا عفان: ما وجدتم في كتابي عن حماد بن سلمة لحنا فعرّبوه فإنّ حمّادًا كان لا يلحن، وقال حماد: ما وجدتم في كتابي عن قتادة لحنا فعرّبوه، فإنّ قتادة كان لا يلحن )[7].
وقد وجدنا الحافظ العراقي نبه إلى خطورة اللحن والتحريف في الحديث في ألفيته:
وَلْيَحْذَرِ اللَّحَّانَ وَالْمُصَحِّفَا فَيَدْخُلاَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ كَذَبَا[8]
عَلَى حَدِيْثِهِ بِأَنْ يُحَرِّفَا فَحَقّ النَّحْوُ عَلَى مَنْ طَلَبَا
تحدٍ علمي للمشككين: أين الدليل؟
أمر آخر في سياق الجواب، نقول لهم: إنّ ما ادّعيتموه من وجود أعاجم رووا أحاديث ملحونة بسبب الرواية بالمعنى، يلزمكم أن تسمّوهم، ثم تثبتوا أنّهم رووا بالمعنى فأخطأوا في روايتهم، وسكت عنهم المحدّثون النقاد؟ على حد القاعدة: “إن كنت مدعيا فالدليل، وإن كنت ناقلا فالصحة”، فليزمهم الجواب عن أربعة قضايا:
- تعيين الراوي الأعجمي في السند صاحب الرواية بالمعنى، من هو؟
- إثبات أنه روى ذلك الحديث بالمعنى، ,كيف عرف أنه أداه بالمعنى؟
- إثبات خطئه في الرواية بالمعنى[9].
- إثبات إقرار الأئمّة النقّاد عن ذلك الخطأ وسكوتهم عنه.
ثم ما نؤكد عليه هو: أنّ المحدثين لم يفوّتوا أخطاء الرواة اللغوية من تصحيف ولحن وما خالف وجه الإعراب، فهناك أحاديث حكم عليها الأئمّة المحدّثون بالردّ للحن الواقع فيها، وأعلّوها من جهة اللغة، ولي في ذلك بحث منشور[10].
رواة الصحيحين: إتقان للغة وإمامة في النحو
وإذا نظرنا في رجال الصحيحين وجدنا عددًا كثيرًا من المشهورين بمعرفة النحو واللّغة بل من أعلامها، وأشاد من ترجم لهم بمعرفتهم واختصاصهم في ذلك، وقد خرّجتهم في مقالة بعنوان: “الرواة الثقات من أهل النحو واللغة في الصحيحين”، وأذكر منهم على سبيل التمثيل:
- النضر بن شميل
- الليث بن سعد
- الحسن بن محمد الزعفراني
- أبو الزناد عبد الله بن ذكوان
- أبو عمر الشيباني
- عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي
- عبد الله بن طاوس بن كيسان
- محمد بن عبد الرحمن بن عبيد القرشي
- يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي
- يحيى بن يعمر البصري
- شيبان بن عبد الرحمن التميمي
- هارون بن موسى الأزدي… وغيرهم.
وهؤلاء – كما نرى- معدودون في أئمة النحو واللغة بل من أعلامهما. ومن هنا نقطع بأنّ اللحن لم يكن أمرًا متفشّيا في الرواة كما يزعم بعض الكتاب والباحثين، بل لا يكاد يوجد في أمّهات المصادر، لا سيما الموطأ ومسند أحمد، وصحيح البخاري وصحيح مسلم؛ فإنّ الذين تدور عليهم الرواية عامّة من أهل الإتقان للغة والنحو، عارفين بما يحيل المعاني، ولا يلتفت إلى بعض اللحن من بعض الرواة، ولم يكن ذلك سمة بارزة في الحديث، وقد أقام النقّاد هذه الأحاديث ببيان صوابها، والحمد لله ربّ العالمين.
هل الأعجمي جاهل باللغة بالضرورة؟
وبعد هذا يقال إنّ ما يثيره بعضهم من شبهة اللحن المحرِّف لمعاني الحديث بسبب الرواة الأعاجم ليس بمرضيّ، فليس في الصحيحين أعجميّ يصدق فيه هذا. ثم هل ينافـي كون الراوي أعجميّا معرفته للغة والنحو؟ وما أكثر النحاة وأهل اللغة ممن صنّف وأتقن وليسوا بعرب، كسيبويه، وابن جني، وأبي علي الفارسي، وابن فارس، والزمخشري، وابن معطي… في خلق كثير.
ثم ما جواب هؤلاء عن وجود شعراء من الأعاجم؟ وكيف جعلوهم حجة في النحو، وقعدوا القواعد من شعرهم؟ يضاف إلى هذا أن زمن رواية الحديث – حيث كان يتلقى بالأسانيد- كان في قرون لم يتفش فيها غير الفصيح، بل يعز فيها المرذول والقبيح. يقول الدكتور تمام حسن: (أنَّ هؤلاء الأعاجم لم يكونوا يروون الأحاديث في عالم غير فصيح، أي إنَّ هؤلاء المحدثين من الأعاجم كانوا يروون ما معهم من أحاديث في وسط فصيح، ولم نسمع أنَّ الأحاديث خالفت القواعد أكثر ممَّا خالفها الشعر العربي المشتمل على الضرائر والرخص، وعلى الرغم من ذلك نرى النحاة يقيمون نحوهم على الشعر وهو لغة خاصة غير النثر، ويتركون الأحاديث وهي أقل مخالفة لقواعدهم من الشعر..)[11].
دفع شبهة محددة: حديث “إلا أحد لا يجد نعلين”
ذكر السيوطيّ – في شرح حديث ابن عمر فيما يلبس المحرم، وفيه: “لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويل، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس خفين… الحديث”[12]-. قال- رحمه الله – في قوله ﷺ: “إلا أحد”: (فيه استعمال “أحد” في الإثبات، وهو غير جائز، وهو من تصرف الرواة الأعاجم، وفي رواية: “وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين… إلى آخره”[13].
والحديث رواه مالك بهذا اللفظ “إلا أحد” عن نافع عن ابن عمر، ورواه عن مالك عبد الله بن مسلمة، وإسماعيل بن أبي أويس، وقتيبة بن سعيد، ويحيى بن يحيى الليثي، والشافعي في الأم، وأحمد بن أبي بكر عند ابن حبان، وعبد الله بن وهب عند البيهقيّ، وأحمد بن يونس عند أبي نعيم في المستخرج على صحيح مسلم، وعبد الأعلى عند أبي يعلى. وتابع مالكا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عند أحمد.
ودعوى أنّ هذا اللفظ من تصرّف الأعاجم تحتاج إلى دليل، ذلك أنّ كلّ من رواه عن مالك ليسوا بأعاجم، ومالك ومن بعده عرب كما لا يخفى، ثم قد توبع مالك فيه، فمن من الأعاجم رواه فتصرف فيه؟
وقد جاء في الصحيحين[14] مثال غير هذا، وهو قوله ﷺ: “ولا أقول: إن أحدا أفضل من يونس بن متى عليه والسلام”. وقد ناقش الإمام ابن مالك – صاحب الألفية المشهورة- هذه المسألة، وأبان عن صواب استعمال “أحد” في الإثبات – عند هذا اللفظ من الحديث-، قال -رحمه الله-: (ومن إيقاع “أحد” في الإيجاب المؤول بالنفي قول الفرزدق:
ولو سئلت عني نوار وأهلها أذا أحد لم تنطق الشفتان
فأوقع “أحدا” قبل النفي، لأنه بعده بالتأويل، كأنه قال: إذا لم ينطق منهم أحد) [15].
خاتمة: حفظ السنة النبوية ودقة نقلها
إن شبهة تحريف الحديث على يد الرواة الأعاجم هي دعوى واهية تفتقر إلى أبسط الأدلة العلمية. لقد أقام أئمة الحديث سياجًا منيعًا من القواعد والشروط الصارمة لضمان نقل السنة النبوية بأمانة ودقة، وكان علمهم باللغة العربية جزءًا لا يتجزأ من أدواتهم النقدية، مما حفظ الحديث الشريف من اللحن والتحريف.