ثمة أسئلة كثيرة مهمة في مسيرة الحضارة الإسلامية؛ تلح على الباحثين في استجلائها، وكشف ما يتعلق بها من ملابسات.

وتستمد هذه الأسئلة أهميتها من أن لها ظلالاً في واقعنا، وأنها شديدة الارتباط بما يواجهنا من تحديات. ومن ثم، فكلما استطعنا تلمُّسَ إجابات لها، كنا أشد قدرةً على التعامل مع واقعنا على هُدى وبصيرة؛ لا تنقطع صلتنا بمسيرتنا، ولا نتجمّد في مواقفنا ونحن نواجه المستجدات.

وسؤال “التأثّر والتأثير” وكيف كانت الإجابة عنه في مسيرة حضارتنا الإسلامية، هو أحد هذه الأسئلة المهمة، وهو سؤال يتعلق بالعلاقة مع الآخر؛ تلك العلاقة التي ما فتئت تطرح نفسها باستمرار على العقل المسلم، منذ نزول الوحي، ومنذ خروج المسلمين من جزيرة العرب حاملين رسالتهم للناس كافة؛ وليس فقط منذ العصر الحديث إبان الغزو الغربي لبلادنا، كما يتصور البعض.

ويمكن أن نتلمس الإجابة عن سؤال “التأثر والتأثير” في مسيرة الحضارة الإسلامية، من خلال الغوص في أربعة أسئلة أخرى تتفرع عن هذا السؤال المحوري، وهي:

هل الحضارات ينفصل بعضها عن بعض، أم تتابع وتتلاقح؟

هل تأثر المسلمون إبان نهضتهم وميلاد حضارتهم بما سبقهم من حضارات، وكيف كان هذا التأثر؟

هل استطاع المسلمون بعد أن استوَوا على قمة الحضارة- ولمدة ثمانية قرون- أن يُؤثروا في غيرهم من الأمم والحضارات؟

كيف نجيب على سؤال “التأثر والتأثير” في واقعنا المعاصر؟

الحضارات.. اتصال أم انفصال؟

يذهب عدد كبير من الباحثين والمفكرين إلى أن “الحضارة”- أيّ حضارة- هي مجموع “الثقافة” و”المدنيّة”. وأن “الثقافة” تُعنَى بالجوانب الفكرية والأخلاقية والفنية، بينما “المدنية” تعنى بالجوانب المادية([1]).

و”الحضارة” من وجهة نظر وظيفية- بحسب مالك بن نبي- هي: مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد من أفراده- في كل طور من أطواره وجوده، منذ الطفولة إلى الشيخوخة- المساعدة الضرورية له في هذا الطور أو ذاك”([2]).

وإذا كان البعض تحت وطأة الصراع؛ الذي يشتد أواره حينًا، ويخفت حينًا، ويكون صراعًا خشنًا تارة، وأخرى ناعمًا هادئًا؛ قد يعتقد أن الحضارات تنفصل ولا تتصل، وتنعزل ولا تتقاطع؛ فإن وقائع التاريخ تخالف هذا الاعتقاد وتثبته عكسه.

ويمكن أن نلاحظ من استقراء تاريخ الحضارات- ميلادًا وتألّقًا وأُفولاً- أنها في جانبها المادي، أي “المدنية”، تستفيد مما سبقها من حضارات، وتبني على منجزاتها، ولا تبدأ من الصفر؛ بل تستوعب وتهضم تراث الآخرين، أولاً، ثم تشكّل لنفسها البصمة المميزة في مختلف جوانب العمران والعلوم والفنون، ثانيًا.

فالحضارات الإنسانية بينها مساحات من التلاقي والتلاقح؛ وهي مساحات تكون أوضح ما تكون في الجانب المادي، بخلاف الجانب المعنوي، أي “الثقافة”؛ فإنه يكون مجالاً للتميّز، وتقلّ فيه مساحة النقل عن الآخرين.

وقد كان موفَّقًا غاية التوفيق د. حسين مؤنس حين شبّه الحضارات الإنسانية المتتابعة بـ”طبقات الأرض”؛ موضحًا أن الأرض مثلما تتكون من طبقة فوق طبقة، فإن مسيرة التطور الحضاري تتكون من حضارة تتبعها حضارة؛ تَنبني عليها وتُفيد منها.

يقول رحمه الله: “الحضارة الغربية الراهنة هي الصورة الأخيرة- وإلى يومنا هذا- التي وصل إليها تطورٌ حضاري بعيد. فَتَحْتَ حضارة الغرب الراهنة نجد حضارة العصور الوسطى [الصواب: الحضارة الإسلامية!]، وتحت هذه نجد الحضارة الرومانية، وتحت هذه نجد الحضارة الإغريقية، وتحتها حضارة مصر القديمة؛ طبقات بعضها فوق بعض”([3]).

ومع هذا التراكم الحضاري لا ننكر أن لكل حضارة من تلك الحضارات طابعَها المميز، وإنجازاتها المعبرة عن روحها وفلسفتها؛ تلك الروح والفلسفة التي تظهر في الثقافة أشد منها في المدنية؛ على الرغم من أن دائرة الثقافة أيضًا لا تخلو من تناقل وتفاعل.

التأثر والاستفادة من الآخر

حين ظهر الإسلام بنزول الوحي على النبي محمد ، مبتدِئًا بقول الله تعالى: {اقْرَأْ}؛ لم يكن للعرب سابقةُ تجربةٍ حضارية، سواء في عالم الأفكار أو الأشياء؛ بل كانوا قبائل متفرقة ليس لها موطئ قدم على خريطة العالم أو سُلَّم التطور الحضاري.

فكان ظهور الإسلام علامة فارقة في تاريخ العرب، وارتفع به شأنُهم بين الأمم المجاورة لهم، والتي كانت تنظر إليهم باستعلاء، وتستعمر أجزاء من أرضهم ليست بالقليلة؛ فنقلهم الإسلام من طور البداوة والفُرقة والقبَلية والتبعية، إلى التحضر والوحدة والدولة والاستقلال.

وبعد مرور ثلاث عشرة سنة من نزول الوحي في “مكة”، أصبحت للمسلمين دولة في “المدينة”، ثم انطلقوا ينشرون نور الله في الجزيرة العربية وما حولها، ويبحثون عن الحكمة أينما وُجدت، من غير ذوبان ولا جمود؛ ليؤسسوا حضارة فريدة في أقل من قرنين.

يقول د. شوقي ضيف: “اندفع العرب من جزيرتهم ينشرون الإسلام وتعاليمه في أنحاء المعمورة؛ ففتحوا أقطارًا كثيرة في العالم من أواسط الهند وأبواب الصين، مرورًا بأفغانستان وإيران والعراق والشام ومصر والبلدان المغربية؛ وعبروا رقعة الماء الضيقة في جبل طارق إلى الأندلس، وركزوا أعلامهم على مشارف جبال البرينيه جنوبي فرنسا. وهي أوطان كثيرة، وكان يعيش فيها شعوب متباينة في الجنس واللغة والثقافة. وقد دانت جميعًا للعرب؛ إذ وجدوهم لا يريدون تملك الأرض في ديارهم وما تحمل من الخيرات والطيبات، إنما يريدون تملك القلوب للدين الحنيف”([4]).

ثم يوضح د. ضيف أن هذه البلاد التى فتحها المسلمون، كانت تنتشر فيها الثقافة الهيلينية- وهي مزيج من الثقافة اليونانية وثقافات شرقية مختلفة- وكانت مبثوثة في جنديسابور بإيران، وفي الرُّها وحرَّان وقنَّسرين وأنطاكية والإسكندرية، وفي بعض الأديرة بالعراق والشام ومصر. وبحكم ما بثه الإسلام في العرب من شغف بالعلم والمعرفة، أخذوا يتعرفون منذ استقرارهم في البلاد التي نزلوا فيها عقب الفتوح على وجوه من هذه الثقافة؛ وكان كثيرون من أهل الذمة، حملة هذه الثقافة الهيلينية، قد تعربوا؛ فانتقلوا بثقافتهم إلى المحيط العربي، وأخذوا عن العرب ثقافتهم الأدبية، كما أخذ العرب عنهم ثقافتهم الهيلينية([5]).

ويرى بعض الباحثين أن الأمير خالد بن يزيد بن معاوية (المتوفى سنة 704م.) قد يكون أولَّ أمير أضاء شعلة العلم التجريبي في الإسلام؛ ذلك أنه كان أول من عمل على ترجمة كتب القدماء في الطب والفلك والكيمياء كما يقول ابن النديم في كتابه “الفهرست”. ثم جاء العباسيون واهتم أبو جعفر المنصور بترجمة العلوم، واتسعت الحركة اتساعًا كبيرًا في عهدَيْ هارون الرشيد وولده المأمون على الأخص؛ حيث أسس الرشيد “بيت الحكمة” أو مدرسة الترجمة التي أخذت في عصر المأمون صورة “أكاديمية. ووضع المأمون على رأسها يوحنا بن ماسويه؛ فقامت المدرسة بأكبر مجهود في ترجمة العلوم والفلسفة والمعارف القديمة. وفي حدود منتصف القرن التاسع الميلادي، أصبح تحت يد العرب مختلف علوم الأسبقين ومعارفهم([6]).

أي أن المسلمين بدأوا يتعرفون على العلوم التي كانت سائدة قبلهم حتى هضموها واستوعبوها جيدًا، ثم أخذوا يصححون ما فيها من أخطاء، ثم في مرحلة لاحقة أضافوا إليها وأنشأوا علومًا جديدة لم تكن معروفة من قبل.

ويوجز أحد المستشرقين (Edward Mcnall Burns) تجربة الحضارة الإسلامية في نظرة شاملة قائلاً: “لقد ولد الإسلام في حي مجهول بمكة في الصحراء العربية، ولم يكد يخرج منها حتى غزا الشرقَيْن الأدنى والأوسط بسرعة مدهشة، ثم وصل إلى الأندلس عبر شمال أفريقية، وإلى حدود الصين عبر إيران، وكانت آخر نقطة وصل إليها الإسلام في أوروبا هي بودابست، حيث لاتزال مقبرة جل بابا، بطرازها التركي على ضفاف الدانوب، تذكرنا بأن المسلمين وصلوا حتى هذه البقعة النائية. وكان من معجزات هذه الزحف، أن أنشأ العرب المتوحشون امبراطورية عالمية؛ ولم يكتفوا بنشر لغتهم في كل أرجاء العالم، بل اكتسبوا العلوم الإنسانية، واستفادوا بها، ورفعوا من مستواها”([7]).


([1]) راجع: “مؤشرات حول الحضارة الإسلامية”، د.عماد الدين خليل، ص: 3، دار الصحوة، بدون تاريخ. “الحضارة الإسلامية، إبداع الماضي وآفاق المستقبل”، أستاذنا د.عبد الحليم عويس، ص: 22، ط مكتبة الأسرة 2012م.

([2]) نقلاً عن “مالك بن نبي.. عودة إلى الذات الفعالية والسننية”، رشيد أورَّاز، ص: 29، مركز الراية للتنمية الفكرية، ط1، 2006، دمشق.

([3]) “الحضارة؛ دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها”، د. مؤنس، ص: 227، سلسلة عالم المعرفة، رقم 237، ط2، 1998م، الكويت.

([4]) “عالمية الإسلام”، د. ضيف، ص: 29، 30، طبعة خاصة من “دار المعارف” ضمن “مكتبة الأسرة”، 1999م.

([5]) المصدر نفسه، ص: 30.

([6]) “علوم المسلمين.. أساس التقدم العلمي الحديث”، جلال مظهر، ص: 15، 16، بتصرف يسير، المكتبة الثقافية العدد رقم 247، طبعة الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1970م.

([7]) نقلاً عن: “المسلمون بين الماضي والحاضر والمستقبل”، العلامة وحيد الدين خان، ص: 8، المختار الإسلامي، ط1، 1978م.