عندما تستهدف الكينونة العربية، ويتزلزل المسطح الذي جهزه المفكرون العرب للتصورات الدينية، وتعصف رياح التعصب والتطرف بأخلاق الدين السمحة، لا يجد المفكر المسلم من مسلك آخر غير استنطاق الظروف والسياقات التي كانت باعثاً وراء القوى التدميرية والاستبدادية المهيمنة آنياً.

فنحن نحيا اليوم أزمة في تدبير المعنى نتيجة محنة سوء فهم تخص الإنسان العربي المنشغل داخل صراع محموم بين الأنا والآخر، والذي أفرز تصورات متباينة للظروف التي تغمر حياتنا. ويبدو أن إعادة اكتشاف المعنى، بتخليصه مما علق به من الرياء السياسي، يستوجب إعادة تأصيل شرعية المفاهيم النظرية والعملية للدين الإسلامي بحسب نوع التوافقات وأشكال التواصل القائمة داخل المجتمع العربي.

ضمن هذا المنظور، يحتل فكر “عبد السلام ياسين” مكانة أساسية ضمن جيل المفكرين الإسلاميين الجدد، إذ يولي مسألة الدين ما تستحقه كمدخل لا غنى في قراءة التاريخ، والبحث عن المعنى الذي ينبغي منحه للإنسان، والمسؤولية التي لابد وأن يضطلع بها في وجوده. فالمنعطف الذي تحاول أن تؤسس له المدرسة الياسينية، ربما، يعود إلى الحالة السديمية والكاوسية التي نعيشها في عالم لم يعد قط يهب المعنى تلقائيا، مادامت البنى الأساسية للأنظمة الاستبدادية تخاتل من أجل التكتم عنه، وتراوغ حتى يسود الجهل والغموض.

ويمكن القول؛ إن أبحاث “عبد السلام ياسين” تلتف عبر مسالك مختلفة محاولة الوصل بين قطب الأخلاق من جهة، وبين مشاغل السياسة من جهة أخرى. ويمثل الاعتراف بتلازم القطبين، الرغبة في تجاوز العلم السياسي الغربي، والتحرر من أبعاده الوظائفية المبتورة الجذور. بيد أن التجاوز لا يمكن أن يحجب عنا الميتاسياسة التي يستنبطها مفكرنا، ونعني بها القيم التي من شأنها أن تعيد تأسيس شكل جديد من الميتافزيقيا الساعية إلى الكشف عن غائيات الوجود والاجتماع البشري.

يبدوأن اقتران هذه الميتافزيقيا بالدين الإسلامي يروم نحو مقام الإفصاح عن مشروعية الشرط الأخلاقي، بوصفه أساساً قاعدياً يترتب عنه الشرط الأنطولوجي (وظيفة الإنسان المسلم)، والشرط السياسي (شكل الحكم السياسي). ويستمد مدلول الميتافيزيقا مشروعيته الأنطولوجية والسياسية من طبيعة الفلسفة الدينية التي تشكل بموجبها ما يصطلح “عبد السلام ياسين” على تسميته ب”المنهاج النبوي”. لكن لابد من الإشارة إلى أن هذه الميتافزيقيا تتميز بالطابع المكتوم المضمر بمختلف أعماله، مما يدعو إلى بذل الجهد لانتزاع عناصرها والظفر بجملة المسائل الفلسفية والدينية التي تتناول مفاهيم مركزية… وهي مفاهيم تتضافر ضمن سياق فكري لا يتيسر دائما ولوجه دون أشعة فحص نظرية.

فبدافع من الوعي الشقي للتلميذ، يتوجه الدكتور “إدريس مقبول” رأساً إلى مسألة هذه الميتافزيقيا، متقصياً كل ما من شأنه تأسيس مشروع إصلاحي من داخل المدرسة الياسينية. فعلى خلفية المنهاج النبوي، وضمن تصور ديني للفلسفة السياسية، سيتولى الأستاذ “مقبول “بيان التلازم الأخلاقي والسياسي في أساسيات التصور الياسيني، ليؤسس في كتابه الجديد (ما وراء السياسة) إمكان المصالحات الأخلاقية-السياسية لتخطي الأعطاب الهيكلية للأنظمة العربية الاستبدادية من جهة، ولنقد مرجع الفكر السياسي الإسلامي والغربي من جهة أخرى.

فالباعث الأساسي على كتابة مؤلف (ما وراء السياسة) بالنسبة للأستاذ “مقبول”، هو التأشير بشكل مفصل على مسألة المعنى التي دشنها في كتابه السابق (سؤال المعنى في فكر عبد السلام ياسين)، من خلال الوقوف على أبرز المفاصل السياسية المميزة ل”نظرية المنهاج النبوي”. فلقد انفرد الكاتب بالبحث في قضايا السياسة والأخلاق من منظور المنهاج الشمولي، حتى يقدم تفسيراً يتوافق بشكل أفضل مع الممارسة البشرية. ويبقى هذا المشروع، من وجهة نظرنا، الأكثر جدارة لمقاربة الفكر الأخلاقي عند المرحوم في سياق يشهد تشتت الفكر السياسي العربي. فما أحوجنا إلى مشروع يمثل هذه السعة في الاطلاع والراهنية، ويعيد رصف بذور الفكر الديني، الذي يتأسس على القرآن والسنة والخبرة التاريخية، بشكل يعيد لها انسجامها داخل إطار نظرية سياسية تفتح الواقع الإسلامي على المستحدثات والمخترعات التي لا تصدم قواطع الشرع. فكم نحن بحاجة إلى جرعة أخلاقية لتغذية الفكر السياسي الذي سقط في رحى التعصب والدوغمائية.

ويمكن القول في ضوء ما قدمنا؛ إن كتاب (ما وراء السياسة) ينهض على قاعدة كبرى واضحة المعالم، وهي إثبات جدارة الأخلاق في بناء الفكر السياسي من خلال الوعي بأن السبيل الأوحد إلى ذلك لا يتم إلا بترسيخ شريعة متكيفة مع الجديد الحادث، غير منغلقة على نفسها مكتفية بالنظر إلى الماضي. وهكذا، برز بالكتاب المقوم الرئيسي لتجديد النظر في التدبير للمصالح المحكومة بالأخلاق الإيمانية، باعتبارها قاعدة جوهرية للدين وأصلا مكينا للأحكام الدنيوية. من هنا، بدا لنا أن كتاب الأستاذ “مقبول” يشمل عناصر التجديد في مقاربة الفكر السياسي من وجهة نظر أخلاقية في اللحظة التي يوضح فيها الصلة الوطيدة بين المقاصد والمصالح. وبذلك، يكون قد وجد في المصلحة مصدراً تشريعياً خصباً يسعفه في تقديم فكر سياسي لازم لمواجهة نظيره الغربي دون الخروج عن مبادئ الشريعة وأحكامها القطعية. ويمكن أن نقر بالمنزلة الأخيرة التي حظيت بها المصلحة المرسلة في كتاب (ما وراء السياسة)، لأنها إحدى الأسس الرئيسية للإصلاح والمواكبة وتوسيع آفاق الشريعة ومفهوم السياسة عند “عبد السلام ياسين”.

يتعين إذن الدمج بين الشرعية الأخلاقية والمشروعية السياسية بشكل يعيد إلى أذهاننا أبجديات العلم السياسي الإسلامي القائم على فكرة الخلافة. إن الالتقاء حول مفهوم م هذه الأخيرة يعيد إلينا صورة الوجود المشترك التي ترسبت في الخيال الجماعي للمجتمع الإسلامي، انطلاقا من نبوءةً تستوحي منجز تصوراتها من المنهاج النبوي الذي يقود نحو القطيعة مع تاريخ الاجتماع السياسي المتداول. فعلى منوال “عبد السلام ياسين”، يدافع “إدريس مقبول” عن فكرة نهاية التاريخ بإحلال إرادة الوجود المشترك من أجل نيل السعادة في المدينة الفاضلة. علماً أن الانخراط في هذه الأخيرة لا يقوم على قوانين الإرغام والإلزام، ولا قوانين الحتمية بالمعنى الخلدوني والماركسي، بل تتأسس فيها الخلافة على نظام اتحادي إسلامي تتحد فيه الأمة رغم تعدد الدول. ويتحصل لدينا من هذا التصور، رغبة “ياسين” في التصدي لعطوبية الوضعية الإنسانية في عالم يسوده صراع البقاء، انطلاقاً من خلافة تتجاوز الأهداف النفعية والآداتية لمجتمعات السوق الغربية الراهنة.

هنا، تبرز أهمية المقاربة الياسينية بوصفها نقداً مزدوجاً لمفهوم الدولة في التصورات الإسلامية التقليدية والغربية الحديثة. فمن ناحية، يأتي كتاب “إدريس مقبول” لتفسير النقد المنهجي للفكر السياسي الإسلامي بنفي كل من ” النزعة التجزيئية ” الرافضة للنسق، و”النزعة الواقعية” الداعية إلى قبول الواقع، و”النزعة التبريرية” الحاجبة للحقيقة، و”النزعة العصبية” القائمة على الحق الإلهي للملوك، فضلا عن “النزعة الانتظارية “المؤسسة على أمل القائد الملهم. ومن ناحية أخرى، يدحض كتاب (ما وراء السياسة) مزاعم وزيف أفكار الحرية والمساواة الإنسانية بنزع الأقنعة عن نازعيها. وبعبارة أخرى، يعري المؤلف حقيقة مشاريع التنوير والتحديث والتحرر وما أفرزته من أنظمة سياسية كبرى كهيمنة الليبرالية، ومركزية الماركسية، ووحشية النازية… إذا ظل الإنسان غارقاً وسط منظور انشطاري، وتجربة تخلو من سمو المعنى ليسقط في العدمية والعبثية…

وعلى النقيض من ذلك، يوجه الكاتب دعوة صريحة إلى إحداث شروخ زلزالية في الفكر السياسي المسيطر آنيا، حتى تنبعث من تصدعاته أسس التغيير وفق نظرية “المنهاج النبوي”. ويعني هذا أن المصائر التي تقررت في عالم الأذهان قابلة للتغيير بفاعلية الإيمان والقرآن بوصفه وحياً باعثاً لإرادة التحول الذاتية والموضوعية.

ويبدو، بحسب تأويل الأستاذ “مقبول”، أن الإرهاصات الميتافيزيقية للمشروع السياسي عند “ياسين” تبحث بالدرجة الأولى في السندات الفلسفية-الأخلاقية لاختبار قدرة بعض المقولات الدينية كالمنهاج النبوي، والمقاصد، والمصلحة المرسلة، والخلافة… في التصدي لبلاغة الواقع السياسي. وبتعبير أدق، الإجرائيات الميتافيزيقية للفلسفة السياسية عند مفكرنا هي الوقائع الحاسمة في تحديد مصير الإنسان.

من الواضح إذن أن الصرح السياسي للمدرسة الياسينية، في نسختها الجديدة عند الدكتور “إدريس مقبول”، لا تخلو من تصور ثيو-أخلاقي متعلق بنمط ما من الحياة الفردية والجماعية، بشكل يمنح الفرد شعوراً انتمائياً أصيلاً تذوب فيه كل من الكينونة الفردية والجماعية في إطار ما يصطلح على تسميته ب”دولة القرآن”. ومن تبعات هذا التأليف الضخم، المناقض لدولة الفساد، يمكن استشعار إحساس جديد للوجود يتجاوز عرضية الكائن الإنساني ليهب معنى لحياة تستعيد التعددية والتماسك الأخلاقي والسياسي.

أخيرا، ودون أن ننتهي، لقد عنى لنا ونحن في محنة السؤال وخضم البحث عن كيفية للتفكير بشكل أصيل داخل الفلسفة، وداخل التراث، وتحت هدي إمكانات العصر الحالي، أن نخوض غمار استقراء المدرسة الياسينية واستقصاء مغامراتها في البحث انطلاقا من قراءة كتاب (ما وراء السياسة) بوصفه توكيداً لمنهج بحثي مركب، وتوجيهاً ثقافياً يتوسل الخلاص مما هو قائم. فالحس السليم يدفعنا دائما نحو الانفتاح على سياجات معرفية تذكرنا بأن التفكير ينبغي أن يفهم في تواشج مع الاختلاف. على هذا النحو وجب علينا وجوباً أخلاقياً الاستماع للآخر الذي نتفق معه اختلافياً. ولعل الدرس الذي أراد أن يؤسس له المرحوم “ياسين”، في إطار التلازم الوثيق بين السياسي والأخلاقي، هو محاولة العيش داخل المختلف ومعه، دون أن نذيبه فينا ونلغي اختلافه بوصفه تخلفاً أو خروجاً عن مقياس حقيقتنا الخاصة.