واحدة من الآيات العظيمة في سورة يونس، تلك التي تصور لك مشهداً من مشاهد القيامة تجعلك بعدها تحتقر العاجلة الفانية، التي يتقاتل بنو آدم عليها وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، زائلة غير دائمة، مهما عاش فيها بنو آدم سنوات عديدة وأزمنة مديدة.

الحياة الدنيا في حقيقتها ما هي إلا ساعة من نهار، مقارنة بما يراه البشر يوم القيامة. حيث سيدرك بنو آدم هذه الحقيقة يومئذ حين يحشرهم ربهم يوم القيامة. ما إن تبدأ المقارنات حتى يتفق الجميع فيما بينهم على المدة { كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم} (يونس: 45). وليست المشكلة في قصر المدة، بل النتيجة النهائية التي ستتضح جلياً للذين كذبوا بالقيامة ولقاء الله {قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين} (يونس: 45).

إنها صدمة من صدمات يوم القيامة للذين كانت الدنيا أكبر همهم ومبلغ علمهم.. المحشورون مأخوذون بالمفاجأة – كما يقول صاحب الظلال – يشعرون أن رحلتهم الدنيوية كانت قصيرة قصيرة، حتى لكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف، ثم أُسدل الستار.

إنهم يجيئون ويذهبون وما يكاد أحدهم ينتهي من التعرف إلى الآخرين، وما تكاد الجماعة فيهم تنتهي من التعرف إلى الجماعات الأخرى، ثم يذهبون. إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا، ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة، ثم يرحلون!

العبرة إذن، ليست فقط في فهم حقيقة قصر مدة الحياة الدنيا، إن كانت ساعة من نهار أو أكثر فحسب، بل ماذا يقدم المرء منا في هذه الساعة القصيرة، لحياة أبدية طويلة، أو بلا نهاية لها؟

وأسرّوا الندامة

إذن وبعد أن يذهل أهل المحشر من إدراك حقيقة أمد الدنيا وكأنها ساعة من نهار قضوها في التعارف بينهم، سيزداد ذهولهم أكثر فأكثر، لاسيما الظلمة، من حقيقة هذا اليوم الذي طالما كذبوا وقوعه، بل استهزأوا بمن يتحدث عنه ويعد الناس بالثواب والعقاب فيه.. سوف يُذهل المجرمون { ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به} (يونس: 54)، أي لو أن هؤلاء المجرمين الظلمة ملكوا ما في الأرض من كنوزها وثرواتها لأجل أن يفتدي أحدهم نفسه مما ينتظره من عذاب أليم، لما تردد في الفداء..

لكن هيهات هيهات { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب} (سبأ: 33)، لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم – كما يقول الزمخشري في الكشاف – وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم، وبهرهم، فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب.

أمام المحكمة الإلهية يوم الدين، لا يفلت ظالم، ولن يضيع حق مظلوم {وقُضي بينهم بالقسط وهم لا يُظلمون} (يونس : 47). قيل بين المؤمنين والكفار، وقيل بين الرؤساء والأتباع، وقيل بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم. واعلم كما يقول الرازي في مفاتيح الغيب، أن الكفار وإن اشتركوا في العذاب، فإنه لا بد أن يقضي الله بينهم، لأنه لا يمتنع أن يكون قد ظلم بعضهم بعضاً في الدنيا وخانه، فيكون في ذلك القضاء تخفيف عذاب بعضهم، وتثقيل عذاب الباقين، لأن العدل يقتضي أن يُنتصف للمظلومين من الظالمين، ولا سبيل إليه إلا بأن يُخفف من عذاب المظلومين ويُثقل في عذاب الظالمين.

أولياء الله لا خوف عليهم

من بين تلك المشاهد الصادمة، يأتي فريق مطمئن غير مفزوع ولا خائف. من هو هذا الفريق؟ إنهم { أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } (يونس : 62). إنهم في مأمن من صدمات القيامة، ولا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا يخافون يوم القيامة حين يخاف الناس.. لكن من هم هؤلاء، أو من هم هؤلاء الذين يسميهم القرآن بالأولياء، والذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟

إنهم بكل وضوح كما يقول القرآن: { الذين آمنوا وكانوا يتقون} (يونس : 63).

نعم، إنهم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح والتقوى، الذين راقبوا الله في أعمال القلب والجوارح.

روي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير أن عمر بن الخطاب قال: قال النبي : إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى، قالوا يا رسول الله: تخبرنا من هم، قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس وقرأ هذه الآية: { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }[يونس:62]. (الحديث رواه أبو داود والنسائي في السنن الكبرى والطبراني في المعجم الكبير، وغيرهم ولفظ أبي داود)

وقد رُوي عن عبد الله بن مسعود، وابن عباس رضي الله عنهم، وغير واحد من السلف أن أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذُكر الله. أي أنهم أولئك الذين يُذكر الله لرؤيتهم، لما عليهم من سمات الصلاح والتقوى والخير.