رمضان شهر المغفرة والرحمة، وفيه تشمر السواعد للعبادة ويرتبط المؤمن بالقرآن والصلاة ويزيد إيمانه بالصيام. وفيه تصفد الشياطين فتخلي بين العباد وربهم، فينطلقوا في الطاعة بكل أنواعها. وفي كل ليلة يؤذن المؤذن لصلاة العشاء؛ فينزل سحر جمالها على الكون في كل مكان. وتهتز قلوب الناس لروعة الآذان وتصغى آذانهم له. فتجد المساجد تكتظ بالمصلين، وترتج بالقرآن، وحتى من لا يدخل المسجد طيلة العام تجده في ذلك الشهر الفضيل مداوماً على صلاة العشاء والتراويح.
وتجد النساء والكبار والضعفاء وكل الناس ساعين إلى الله في طرقات المساجد … لم يوقفهم عجز ولا مرض ولا خوف، قلوبهم متوجهة إلى الرحمن وخطواتهم متسارعة في مرضاته، كأن لسان حالهم يقول “يا ربنا ها نحن تركنا دنيانا وملذاتنا وأهواءنا وألعابنا وجئناك مسرعين نقف ببابك طالبين سماحك وعفوك، يا ربنا ارحمنا وتب علينا، يا رب ارض عنا وارضينا، يا ربنا ظلمنا أنفسنا وجئناك لتسامحنا وتزكينا وتغفر لنا ذنوبنا صغيرها وكبيرها، يا ربنا ارحم ضعيفنا ومبتلانا وموتانا برحمتك، يا ربنا … يا ربنا …”.
ويتلاقى الناس في فناء المساجد يتسالمون ويبتهجون برؤية بعضهم البعض، وكأنهم في جنة الفردوس تحفهم ملائكة الرحمة وتصب عليهم من رحيق الجنة أنفاس معطرة بذكر الله، ثم تقام الصلاة فيصمتون ويصطفون سريعا كأنهم في عرض استعراضي، كلٌ قد سارع ليسد ثغرة فيه. فتملأ صفوف المصلين المساجد ثم تتدفق على الطرقات والشوارع من كثرتها؛ فلم تترك منها مكانا ولا زاوية إلا وبه عبد من عباد الرحمن واقفٌ ممتثلاً لله ومنصتاً لتلاوة الإمام العطرة التي خشع لها قلبه وسكن لها وجدانه.
وإذا نظرت من أعالي المباني المجاورة ترى الصفوف مرصوصة وكأنها نسج مغزول لثوبٍ ثمين من الصوف، التفت صفوفه حول المسجد وسكنت خيوطه كلٌ في مكانها الصحيح. ويغطي كل ذلك زُرقة السماء الصافية وتنعكس عليها أنوار المآذن البيضاء، ويهب عليها النسيم العليل والهواء البارد. فيا له من منظر بديع تدمع له العيون وتدق له القلوب وتشتاق لربها.
وتبدأ الصلاة فيسكن الجميع ويعم الصمت سوى تلاوة الإمام العذبة بصوته الشجي. فيطرب المصلين بآيات الرحمن البينة والتي خالجت معانيها قلوبهم. ولا عجب، فقد قال الحبيب المصطفى عندما سمع قراءة أبي موسى الأشعري: (لقد أوتي مزمارا من مزامير آل داود)[1]. وقال: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن يجهر به)[2]. ويتأثر المصلون بتلك التلاوات العطرة والآيات الكريمة.
ترى منهم من يذرف الدموع حتى تبل لحيته، ومنهم من يحمر وجهه، ومنهم من يجهش بالبكاء حزناً على ما فات. ويتذكرون قول ربنا: (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (الزمر: 56). إنه بكاء المقصرين ندما على التفريط في طاعة الله. وكأن لسان حالهم يقول يا حسرتاه على نوم الليالي، يا حسرتاه على ترك النافلة، يا حسرتاه على قلة التلاوة، يا حسرتاه على هجران المساجد، ويا حسرتاه … إنها حسرات متتابعة وعبرات كثيرة تملأ قلوب الراجعين إلى الله في رمضان، ومن يتذكرون فيه الإسلام؛ فيصومون ويقومون بعد طول سبات. نسأل الله تعالى لنا ولهم الثبات في الدين.
ونسأله تعالى أن يديم علينا نعمة رمضان، ويعيده علينا أعواما وأعواما؛ نستمتع فيها بالصلاة والقيام. وكل عام وأمة محمد جميعا بخير، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.