من صور سرطان المؤسسات الذي تناولنا بعض ملامحه التشخيصية في المقال السابق صور خطيرة تبرز في مؤسساتنا التعليمية على وجه الخصوص. أحد أخطر هذه الصور هو التضخم الكمي الخاوي على حساب التعمق الكيفي النوعي. إنه أشبه ما يكون بتضخم الأورام السرطانية الخبيثة المهلكة على حساب التكتلات العضلية التي هي علامة قوة جسدية ولياقة بدنية.
تتمثل خطورة هذا التضخم الكمي السرطاني بأبرز صوره في الأعداد الكبيرة للخريجين غير العميقين بل غير المؤهلين في الحقيقة، والحق أنه لولا الشهادات الممنوحة لهم لما استحق الكثير منهم الألقاب التخصصية التي أصبحوا يحملونها، ولكن يحسبهم الجاهل متخصصين من التوهم والانخداع بشهاداتهم، وهنا مكمن الخطورة. إن من يحمل شهادة مدرب على السباحة وما هو بسباح قد يغرق من يسلمون أنفسهم له ليدربهم. هذا مثال لخطورة حملة الشهادات التخصصية من غير استحقاق. إن هؤلاء قد يشكلون خطراً على الأمن القومي مع تفاوت في درجة الخطورة حسب الوظائف التي سيشغلونها بشهاداتهم التي منحت لهم.
قد يقول قائل: ما هذه المبالغة والتهويل؟!
وجوابنا أن محاولة تشخصينا هنا للتضخم الكمي السرطاني قائمة على واقع عشناه وخبرناه ومازلنا نعيشه، وليست مبالغة ولا تهويلاً. فنحن في الواقع التدريسي الجامعي نشهد كما يشهد غيرنا من الأساتذة فئات كبيرة من الطلبة والطالبات لا يحسنون القراءة والكتابة – وهما ألف باء التعلم – ونراهم مع ذلك يتخرجون ويمنحون شهادات تخصصية. ثم إننا في الواقع الحياتي والوظيفي نتعامل ويتعامل غيرنا مع نماذج من تلك الفئات من الخريجين غير المؤهلين في ميادين مختلفة فنرى العجب العجاب في أدائهم الوظيفي والحياتي، كما نجد العنت الشديد في التعامل معهم بسبب قلة وعيهم وبساطة تفكيرهم وضعف تكوينهم. وبصراحة وأمانة إن ما تعانيه مجتماعاتنا من “أنصاف المتعلمين” لا يقل شدة مما تعانيه من الأميين بل هو أشد. والسبب واضح وهو أن الأميين لا تؤهلهم أميتهم لتقلد المناصب التي تؤهلها شهادات “أنصاف المتعلمين”.
بالإضافة إلى أننا نشهد أن كثيراً من الأميين في مجتماعاتنا يتلقون تثقيفاً عبر ما يطرح في مجالس الوجهاء و أهل التجارب و”الشياب” من “سوالف” تتمتع في الغالب بدرجة ليست هينة من الوعي والعمق والحكمة والفائدة تفوق بمراحل الطرح التسطيحي السائد في مؤسساتنا التعليمية التي يتلاقها الطلبة. وهذه مفارقة تستحق الدراسة ولعلنا نتناولها في مقال مستقل.
وفي الحقيقة أن كثيراً من الخريجين ليسوا “أنصاف متعلمين” بل “أخماس أو أسداس متعلمين” مما يزيد الطين بلة! وهؤلاء مع ذلك قد يتقلدون مناصب حيوية في المجال التعليمي والتوجيهي والديني والإعلامي والقضائي والدبلوماسي والأمني والصحي والاقتصادي والهندسي وغيرها من المجالات الحساسة والأساسية لنهضة المجتمعات، وهي كلها مجالات تحتاج إلى تأهيل عميق يفتقر إليه هؤلاء، فيصبحون بذلك “رءوساً جهالاً” كما حذر النبي ﷺ في الحديث الصحيح، فيفتون بغير علم في مجالات اختصاصاتهم التي لا يشهد لهم بها إلا شهاداتهم المضللة، “فيضلون ويضللون.
والحق يقال ولو كان مراً إن هذه الحالة من التأهيل الظاهري الخاوي أمية مبطنة يسهم أصحابها في ظاهرة البطالة المقنعة في المؤسسات التي يعملون فيها، ولا أدلَّ على ذلك من أن أرباب العمل في عدد من المؤسسات يضطرون إلى توظيف آخرين مع أولئك ليسدوا عجزهم في أمور أساسية، مثل كتابة التقارير بل حتى كتابة الرسائل. إن في ذلك – بصراحة مرة – خيانة للمجتمع بكامله!
وقد يقول قائل: وما ذنب الخريجين إن كانت المؤسسات التعليمية هي التي تقبلهم وهي التي تخرجهم بغير تأهيل حقيقي نوعي؟!
ونقول هذا سؤال مشروع ومهم ويجب أن يطرح ويناقش على مختلف الأصعدة بل يجدر أن يتحول إلى قضية مجتمعية. ولكن حسبنا في هذه السلسلة من المقالات أن ندق ناقوس الخطر من انتشار هذه الحالات السرطانية في المؤسسات ولفت الأنظار إليها بمحاولة تشخيصها تشخيصاً صحيحاً لتتدارك قبل استفحالها، فالتشخيص الصحيح شرط العلاج السليم كما هو معلوم، أما سؤال المسؤولية فيحتاج إلى معالجة تستحق أن تفرد بسلسلة مقالات أخرى.