يسأل بعضهم عن سر الإعجاز في بيان القرآن..؟! فما دامت ألفاظه وتراكيبه من هذا اللسان، فأين الإعجاز.. ؟!
والجواب عن ذلك بسهولة ويسر .. هو أن القرآن عندما يعبر عن معنى بأسلوب معين لإيصال ذلك المعنى..
فإن عمالقة البيان عاجزون عن التعبير عن ذلك المعنى نفسه مع الإيفاء بحقه، بأسلوب أو لفظ غير ما استعمله القرآن.
نعم قد يستعملون تراكيب للدلالة على ذلك المعنى من اللسان، لكنهم لا يستطيعون الإيفاء بحق ذلك المعنى تماما كما قصده القرآن، مع جمال اللفظ، وحسن السبك، ورونق التعبير، وجمال التصوير ..
وهذا ما لمسه بلغاء العرب قديما من أصحاب اللسان، فأرخوا له العنان، وجرهم من ألسنتهم إلى الإيمان.!
فمثلا عندما نقف عند قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِله شُرَكَاءَ الْجِنَّ )
فإن المتأمل في تركيب النظم، أنه جاء على هذا النحو العجيب من تقديم شبه الجملة الجار والمجرور (للهِ) وتقديم المفعول به الثاني ( شركاءَ) وتأخير المفعول به الأول (الجنَّ)، وكان حق التركيب بالترتيب أن يكون ( وجعلوا الجنَّ شركاءَ للهِ) ، فعل + فاعل +مفعول به أول + مفعول به ثان + شبه الجملة.
فلو عبر الناس بهذا التركيب، على هذا النحو من الترتيب المتوقع في اللسان العربي، هل سيؤدون المعنى نفسه المقصود في البيان القرآني؟! يستحيل ذلك ولا يكون!
ذلك أن قولهم : وجعلوا الجنَّ شركاءَ للهِ. على هذا النحو من التركيب والترتيب سيولِّد معنى موهما، وهو أن مشركي العرب اتخذوا الجن شركاءَ لله. وأن الاعتراض منصب على جعلهم الجن دون سائر الكائنات!
فلو جعلوا ما هو أعظم من الجن كالملائكة مثلا، لكان مسكوتا عنه وهان الأمر.
وهنا يختل ميزان البيان، ويتولد الوهم في الكلام، وهو غير مراد قطعا من مقصود نظم القرآن ..
فلم يكن لهم بد من نظم القرآن فحسب، على هذا النحو البديع الرفيع في النظم والترتيب والبيان، وهنا مكمن الإعجاز بالتحدي، أن يأتوا ببيان يؤدي مقصود القرآن على وجه الدقة، بتعبير مختلف لما ورد في بيان القرآن.
فقوله تعالى : ( وجعلوا للهِ شركاءَ الجنَّ)
انصب فيه الاعتراض واتجه إلى كونهم جعلوا لله شريكا، وحقه ألا يكون له شريك مطلقا لا من الجن ولا غيرهم.
فقدّم ما حقه التأخير وهو شبه الجملة (لله)؛ لأنها موضع العناية والاهتمام وهي نواة الجملة، وكوكبها التي تدور حوله مجرة الكلمات!
لله! …جعلوا لله! فالاعتراض ابتداء منصب على كونهم جعلوا لله!
ثم قدم المفعول الثاني على الأول فقال:شركاء! فانصب الاعتراض في المرتبة الثانية على جعلهم الشركاء عموما..
ثم أخر ذكر الجن؛ لأنها ليست موضع العناية والاهتمام، وإنما ورد ذكرها من واقع الحال..
هذا هو الإعجاز في النظم المحكم المعبر عن المعنى المقصود بدقة وإحكام!
ولا مناص، لا مناص مطلقا، لبلغاء الكلام، وأمراء البيان، وأساطين البلاغة، أن يأتوا بنظم مغاير معبر عن المعنى المقصود بدقة نظم القرآن.
وهنا تنحني ناصية البيان، وتتوارى ربات الخدور من الكلمات في معاجم البيان، في عجز واضح أن تحل كلمة أو تغاير ترتيبها عما هو في واسطة عقد هذا البيان، المحبوك المسبوك الفائق في سبكه قلائد العقيان!