تعيش البشرية أسوأ أيامها، وأحط أحوالها، تشهد بهذا وسائل الإعلام، لا تكاد تحمل لنا إلاَّ تزايد أعداد القتلى، والمشردين، وارتفاع نسب البطالة، واتساع دوائر النزاع، وانتشار الأمراض القاتلة،وارتفاع الأسعار، وازدياد أعداد الفقراء، وتنوع صور الاعتداءات على الإنسانية بكل فئاتها، وعلى البيئة بكل ميادينها، وهو ما يهدد أصل وجود البشرية برمتها، في ظروف كهذه، غاية في الخطورة، تدعو الحاجة، والضرورة، إلى استحضار سير بعض عظماء البشرية، لتعريف الناس بهم، واطلاعهم على سيرهم الشخصية، ونشر تعاليمهم بين الناس، وهذا في اعتقادي، سوف يسهم في الترويج للأخلاق الفاضلة، وفي التنفير من الأخلاق السيئة.
هذا المسلك، يعد خطوة في الاتجاه الصحيح، نحو محاصرة الشر وأهله، ومطاردة صنَّاع المشاكل، العابثين بمصير البشرية وبأمنها، وبمقدراتها، وهي لا تعدو أن تكون خطوة في رحلة الألف ميل، ولكن لها أهميتها، لأنها في الاتجاه الصحيح .
الحق أقول: إن العظماء قليلون، مهما كثروا، وهذا يعين على تتبع سيرهم لأنهم ندرة ونخبة، ومن كانت هذه حالهم فينبغي أن يكونوا محل عناية، بخاصة في وقت تحتاج فيه البشرية إلى تراثهم الأخلاقي، وتجاربهم التي نجحت في ميادين متعددة . بالإضافة إلى ذلك أن الناس بطبعهم أخيار يميلون إلى الفضائل، ويحبون رموزها الذين تميزوا بها.
يتضح الأثر الطيب لسير العظماء في صورة جليَّة، حين يُقدم لهذه البشرية المرهقة نماذج حيَّة لأشخاص مارسوا الأخلاق، وجعلوا منها ومن الفضائل واقعاً معاشاً، وسلوكاً ممكناً، في دنيا الواقع، والبشرية بلا ريب بحاجة إلى مثل هذا التوجيه، بعدما أصاب كثيراً من جوانب حياتها التشويه.
نحن لا ننكر أن سير العظماء في تاريخ البشرية، لحقها بعض إساءات، بقصد أو بغير قصد، لأسباب منها الجهل بها أحياناً، وربما التجاهل لها حيناً ، وقد أحسن الأستاذ العقاد حين شخَّص الداء ووصف الدواء بقوله: “إن البشرية بقدر اجترائها على هؤلاء العظماء، بقدر حاجتها إليهم”.
من الرائع أن نقرأ سير هؤلاء العظماء ونجمعها في أسفار،يقول الدكتور (توماس كارليل) صاحب كتاب (الأبطال):”إن التاريخ سجل لسير أعمال العظماء” ، ومن الضروري أن نسعى جاهدين لانتزاع الحقائق من هذا التاريخ ولا شيء غير الحقائق، ولنا بعدها أن نسلك مسلك المفكر العالمي الدكتور نعوم تشومسكي، ويأخذوا بنصيحته إن شاءوا، حين قال بعد أن جمع كثيراً من الحقائق المفزعة: “لقد انتزعت هذه الحقائق من التاريخ، وعلى المرء أن يصرخ بها ويعلنها على رؤوس الأشهاد”.
إذا كان نعوم تشومسكي قد قلَّب صفحات التاريخ المعاصر، فوجد فيها حقائق مفزعة رهيبة، فها نحن نقلِّب صفحات التاريخ الماضي البعيد، بحثاً عن صفحات بيضاء مضيئة، وأحسب أننا واجدون فيها الكثير مما نؤمل.
فإن من رحمة الله تعالى بخلقه أن يقيم لهم معالم خير، ومنارات هداية، من خلال رموز بشرية نقية، إمَّا بأشخاصهم وقت وجودهم، وإما بما تركوا لنا من سير عطرة، وتراث جميل في رحلتهم الطويلة، بغية أن يذكِّروا الناس إذا نسوا، ويعينوهم إذا ذكروا.
من الضروري أن نقرأ في سير العظماء حسب تقدمهم الزمني، لأن فضل السبق معتبر، فإن اللاحق غالباً ما يفيد من السابق، بخاصة في مجال علم الأخلاق، فالبشرية لا تكاد تختلف في شيء منها، وهي مما يتوارث بين أجيالها ، وأفرادها.فغلى سبيل المثال إذا حاولنا قراءة سيرة (بوذا)، باعتباره قديساً مشهوراً متقدماً في الزمن، معظماً لدى مئات الملايين من البشر في آسيا بخاصة، لمعرفة زهده في الحياة، وصفاء نفسه. فللأسف لم نجد المعلومات الكافية، التي تمكننا من تقديم صورة واضحة المعالم لبوذا..
يعترف العلامة الأستاذ سلمان الندوي- كبير علماء الهند، في القرن الماضي- بعد بحث طويل، في سيرة (بوذا)، بالعجز عن الحصول على معلومات عنه، فيقول متسائلاً:”هل يقيم التاريخ وزناً لوجود بوذا ؟ وهل يقدر مؤلف على أن يعرض للناس صورة حقيقية لتاريخه؟ وهل يستطيع كاتب، أن يصف ظروفه، وأحواله التي كان عليها في حياته، وصفاً كاملاً، لا يغادر شيئاً من تحديد زمن ميلاده، ووطنه، وأصول دينه، كما دعا هو إليه، ومبادئ دعوته، وأهدافها؟..الذي نعلمه، أن ذلك كله محجوب عن علم الناس، بظلمات كثيفة متراكمة”.
ونراه في موضع آخر، يبدي أسفه، واستغرابه، لندرة المعلومات عن بوذا، فيقول:”أليس من المستغرب أن بوذا الذي يبلغ عدد المنتسبين إليه، ربع سكان المعمورة، لا يحفظ التاريخ من سيرته إلاَّ عدةَ أقاصيص، وحكايات، لو أننا نقدناها، بمقاييس التاريخ، لنتخذ لأنفسنا قدوة من حياته، وسيرته، لخرجنا من ذلك خاسرين”. والسبب في هذا ، وقفت عليه دائرة المعارف ، حين ذكرت، أن تاريخ (بوذا) أكثره من قبيل الحكايات .
إذا كانت النتيجة، التي توصلنا إليها، وآخرون قبلنا، حول حياة (بوذا)، لا تخلو من جرأة في نظر البعض، فإن الجرأة الأكثر، والمفاجأة الأكبر، جاءت من قبل الأستاذ (ر.ف بودلي)، المؤرخ الإنجليزي المشهور ، الذي عمم هذا الحكم، ليشمل مع (بوذا) غيره من العظماء، وفي هذا يقول بودلي ما نصه:”إننا لا نجد ما دوَّنه معاصرو موسى، أو كونفوشيوس، أو بوذا، ولا نعرف إلاَّ بعض شذرات عن حياة المسيح، بعد رسالته”.
الحق أقول: إن رأي (بودلي) في سيرة موسى عليه السلام صحيحيح فقد اختلطت عندنا وقائع سيرته الصحيحة بما أدخل عليها اليهود من زيف وتحريف، ولا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحاضرة لنستخرج منها سيرة صادقة لموسى عليه السلام، فقد أخذ كثير من النقاد الغربيين يشكون في بعض أسفارها وبعضهم يجزم بأن بعض أسفارها لم يكتب في حياة موسى عليه السلام ولا بعده بزمن قريب، وإنما كتب بعد زمن بعيد من غير أن يعرف كاتبها، وهذا وحده كاف للتشكيك في صحة سيرة موسى عليه السلام كما وردت في التوراة، ولذلك ليس أمام المسلم أن يؤمن بشيء من صحة سيرته إلا ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة.
أما رأي رأي (بودلي) في حياة المسيح- وإن كان يبعث على الاستهجان لدى كثيرين- إلاَّ أنه في الواقع له حظ من الصحة، وهو على أية حال، يبقى رأياً أقل غرابة، بإزاء الرأي الذي طرحه بعض علماء الأديان في أمريكا، والذي يتضمن جرأة قبيحة، حين أنكر هؤلاء أصل وجود المسيح عليه السلام، فاعتبروا أن كل ما ذُكر حوله هو من الأساطير، وأن ما ذُكر عنه إنما هو بقية من بقايا وثنية الروم، واليونان.
لم يقتصر الأمر على هذا الصنيع الشنيع، فقد استمر الجدال أشهراً حول وجود المسيح عليه السلام، في مجلة (روبن كورث)، التي تطبع في شيكاغو، ودار البحث عما إذا كان للمسيح وجود تاريخي، أم هو مما ابتدعته أوهام القدماء، من الأمم السالفة، واختلقته اختلاقاً.
ليس من شك قط، أننا نرفض بشدة هذا التجذيف، ونستنكر هذا التطاول، على مقام السيد المسيح، فإن وجوده ثابت ثبوت الشمس في كبد السماء، فقد تحدثت عنه الكتب المقدسة، وتبوأ فيها منزلة رفيعة، هو وأمه الصديقة. لا يطرح مسألة وجود المسيح إلاَّ جاحد معاند، وعابثٌ لا وَزْن له، ولا اعتبار في الميدان العلمي، وهذه الآراء، وأمثالها، أقل شأناً، من أن نضيِّع فيها وقتنا، وهو قصير وثمين.
بيد أننا لا ننكر إنصافاً للحقيقة، أن ثمة علامات استفهام كثيرة، في سيرة السيد المسيح، وهذا ما دفع (بودلي) نفسه ليقول :”لا نعرف إلاَّ بعض شذرات عن حياة المسيح، بعد رسالته، ولا نعرف شيئاً عن الثلاثين سنة التي مهدت الطريق للسنوات الثلاث التي بلغ فيها أوجه”.
إن الناظر فيما كتب حول السيد المسيح عليه السلام ، يجد أن هذا الرأي لم ينفرد به (بودلي)، أو غيره، فإن هناك شبه إجماع عليه “فقد استفرغ العلامة ريتان جهده، ولقي من العناء، والتعب، مبلغاً عظيماً، ليقف على حياة عيسى كاملة تامة، ومع ذلك فإن شؤون عيسى عليه السلام، وأحواله لا تزال سراً مكنوناً، في ضمير الزمن، لم يبح به لسانه بعد”.
لا بد من التوضيح، أن هذا الذي تقدم، لا ينال بحال من مقام السيد المسيح عليه السلام، فإن السيد المسيح عليه السلام عاش في بيئة معادية له، سواء من اليهود الذي لبث فيهم فكفروا به ، أو من الدولة الرومانية الوثنية ذات السلطة والسطوة التي قست عليه كثيراً.
نخشى أن يكون من سوء حظنا، أو ربما من سوء حظ هؤلاء العظماء، أنه تعذر علينا الإلمام بسيرهم، والوقوف على كثير من تفاصيلها، أو حتى التأكد من وجود بعضهم أصلاً.
جاء في دائرة المعارف البريطانية – التي تعد من أوثق المصادر في التاريخ عند الباحثين– عن (زرادشت) :”يقال: إنه نبي المجوس، دعا إلى عبادة النار، والحكايات التي شاعت عنه كثيرة، وما عدا أنها بالغة في الغرابة، فهي متناقضة كمال التناقض..لما شاخ اعتزل الناس في جبل البرزو، وبقي على عزلته حتى أدركته الوفاة”.
وفي موضع آخر تقول دائرة المعارف البريطانية: “إن الأسطورة التي تشتمل على الحياة المستغربة لزرادشت، لا تدلنا على حياته دلالة واضحة، ولا تهدينا السبيل، إلى معرفته، معرفة تاريخية، بسبب ما نجد من غموض، لا ندرك معناه، وخُتم الكلام بالقول إننا لا نعلم زمن زرادشت البتة ونجهله جهلاً تاماً”.
الحق أقول:إن الاسترسال بشأن قصص يسوع وبوذا وزرادشت يبعث الأسى في النفوس، لأن قصصهم تحاط بعشرات العلامات من الاستفهام،..ونتمنى أن يعتذر أتباعهم جمعياً لهم، وأن تُحاسب جهة ما، ولا نعلم لمن الحساب، ولا يسعنا إلاَّ التسليم بهذه النتائج، والإقرار بتلك الحقائق. لعل الزمن القادم يشهد فتح صفحات مطوية، ويكشف عن معلومات منسية، وإن كان التفاؤل في هذا الشأن قليلاً، إن لم يكن معدوماً، فقد مضى على وجودهم آلاف السنين، ولم نظفر إلاَّ بهذا النزر اليسير من المعلومات، فلو كان ثمة شيء لظهر.
وهكذا نجد أن أصح سيرة وأقواها ثبوتا متواتراً هي سيرة محمد رسول الله ﷺ.فأن حياة النبي الله ﷺ واضحة كل الوضوح في جميع مراحلها، منذ زواج أبيه عبد الله بأمه آمنة إلى وفاته ﷺ، فنحن نعرف الشيء الكثير عن ولادته، وطفولته وشبابه، ومكسبه قبل النبوة، ورحلاته خارج مكة، إلى أن بعثه الله رسولا كريما، ثم نعرف بشكل أدق وأوضح وأكمل كل أحواله سنة فسنة، ما يجعل سيرته ﷺ واضحة وضوح الشمس. كما قال بعض النقاد الغربيين: إن محمدًا – ﷺ- هو الوحيد الذي ولد على ضوء الشمس.
المراجع:
بطرس البستاني: دائرة المعارف ، دار الفكر، بيروت.
دائرة المعارف البريطانية.
ر. ف. بودلي : الرسول : حياة محمد، ترجمة محمد فرج وعبد الحميد السحار، مكتبة مصر.
سلمان الندوي: الرسالة المحمدية، مكتبة دار الفتح، ط، 1973م، دمشق
عباس العقاد :عبقرية محمد، الأستاذ ، ط2، 1969م، دار الفكر، بيروت
نعوم تشومسكي:الحادي عشر من أيلول الإرهاب والإرهاب المضاد، ترجمة ريم منصور الأطرش، دار الفكر، ط1، 1424هـ.