المسافة الفاصلة بين عمر الفرد وعمر الدول وعمر الحضارات وعمر القيم الإنسانية يشير إلى سُلم زمني لا تتساوى أبعاد أدراجه عن بعضها البعض، وأقصر هذه الأعمار هو عمر الفرد يليه عمر الدول ثم عمر الحضارات لتكون أعمار منظومة القيم الإنسانية هي الأطول.
فمن ينظر للتاريخ من ثقب أعمار الأفراد يجتاحه القلق ويربكه عدم احترام إيقاع نزعة الموت ، وتُعَمّر الدول سنينا أو عقودا أو قرونا في أحسن الأحوال، وتمتد الحضارات لقرون بعد أن تتسلل إلى أوصال أذرع الحياة المختلفة، لكن منظومة القيم ترافق البشرية منذ الوجود الأول للإنسان سواء أكان إنسان نظرية الخلق أو نظرية التطور، وتكون في رحلتها هذه متحررة وعابرة للحدود الاجتماعية والسياسية وكل نقاط العبور من حد لآخر.
أزعم أن منظومة القيم هي التعبير الحي الدائم عن كفاح بشري دموي وغرائزي و عقلاني ومسالم ووقور ووقح للوصول إلى منظومة قيمية عليا توقظ في وجدان البشرية ما أسماه هارولد لاسويل “هدوء الرحم”، حيث تنتفي ملابسات الآخر .
إن الحرية والمساواة والعدالة وكل ما يُشتق من فروعها تبدو متعثرة بالنظرة الآنية القاصرة، لكني أراها تتطور بالنظرة التاريخية العابرة لحدود الأفراد والدول والحضارات ، أن نسبة الحرية –مع إقراري بأن تشوهاتها ما تزال جمة- هي الآن افضل من قرون خلت.
وإن نسبة المساواة هي أعلى من نماذج الخبرة التاريخية للذاكرة البشرية المعاصرة، والعدالة تسعى لأن تلحق بأختيها، ففي الوقت الذي كان في كل مجتمع عبيده أو أقنانه، يُنكر المعاصرون وجودهم أو يتوارون خوفا من المساءلة، وهل حرية المرأة في أن تعيش كإنسان هي ذاتها التي نُظر لها كعورة في السابق، وهل مساواة الأفراد مناظرة لمسافات التباعد التي كانت؟
نعم لم نصل للحرية التامة أو المساواة التامة أو العدالة التامة، فاندحار الاستعمار التقليدي مؤشر على مساحة حرية أضيق من الإستعمار الحديث، وفي كل شر، لكنه خطوة إلى الأمام مع الأقرار بكل أوزاره، ولعل الإقرار النظري بحق أي فرد أن يترشح للمناصب العليا هو أفضل من الإنكار النظري والعملي لهذا الحق، وحق العامل في الأجر ومقارعة رب العمل أصبح أمرا بديهيا رغم كل التحايل عليه، وانتقال أدبيات الحقوق من حق المواطن إلى حق الإنسان هي خطوة على الطريق.
وليت “أرسطو ” معنا ليقارن بين دساتيره في زمانه وبين دساتير اللحظة الراهنة.
لكن الرحلة شاقة، ومكر التاريخ كبير ومرهق، غير أن النزوع الإنساني سيبقى يُلح دون هوادة أو كلل للتقدم خطوة أخرى، وهو ما يعني أن التمايز على أساس اللغة والقومية والعرق والدين والجنس والطبقة سيتراجع على المدى البعيد لصالح أفق إنساني حتى لو عانده البعض وشكك فيه، لكنه في أعماقه يدرك عُلوَّه.
لكن هذا التمايز سيطوي معه الكثير من الآلام الإنسانية بالعرق والدم أحيانا وبالعلم والفن والجمال أحيانا أخرى، لكن الدرب طويل طويل، وعليه لا بد من تقسيم التاريخ ليس على أساس ديني أو قومي أو حضاري أو غيره .
بل على أساس التطور القيمي، فنقول تاريخ الحرية، وتاريخ المساواة ، وتاريخ العدالة. فتلك هي شبكة القيم التي ساهم الكل في نسجها ،وكثيرا ما ظن البعض أنه ينسج لوحده، لكن لا يعلم أن هناك من يتابع النسج ذاته مع أنه في مكان آخر ومن دين آخر أو لون آخر أو عرق أو قومية أو خلافه، وما على كهنة “التاريخ المعاند ” إلا إدراك أن سيف القيم فوق عنق تاريخهم، فإما أن يستجيب ممثلوه أو أن تُجَزَّ تلك العنق، وتسير القافلة…ربما.