في استهلاله لتفسير هذه الآية أشار الإمام ابن عاشور إلى خفاء موقع هذه الآية ‌{سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 142]فقال:

“قد خفي موقع هذه الآية من الآي التي بَعْدَها؛ لأن الظاهر منها أنها إخبار عن أمر يقع في المستقبل، وأن القبلة المذكورة فيها هي القبلة التي كانت في أول الهجرة بالمدينة، وهي استقبال بيت المقدس، وأنَّ التولي عنها هو نسخها باستقبال الكعبة، فكان الشأن أن يترقب طعن الطاعنين في هذا التحويل بعد وقوع النسخ، أي بعد الآيات الناسخة لاستقبال بيت المقدس لِمَا هو معلوم من دأبهم من الترصد للطعن في تصرفات المسلمين، فإن السورة نزلت متتابعة، والأصل موافقة التلاوة للنزول في السورة الواحدة إلاّ ما ثبت أنه نزل متأخراً ويتلى متقدماً”.

وأتبع ذلك الاستهلال بقوله:
“والظاهر أن المراد بالقبلة المحولة القبلةُ المنسوخة وهي استقبال بيت المقدس أعني الشرقَ وهي قبلة اليهود”.

ثم قال بأنه “لم يشف أحد من المفسرين وأصحاب «أسباب النزول» الغليل في هذا، على أن المناسبة بينها وبين الآي الذي قبلها غير واضحة فاحتاج بعض المفسرين إلى تكلف إبدائها”.

وذهب ابن عاشور إلى القول بأن الذي استقر عليه فهمه “أن مناسبة وقوع هذه الآية هنا مناسبةٌ بديعة، وهي أن الآيات التي قبلها تكرر فيها التنويه بإبراهيم وملته والكعبة، وأن من يرغب عنها قد سفِه نفسه، فكانت مثاراً لأن يقول المشركون، ما ولَّى محمداً وأتباعه عن قبلتهم التي كانوا عليها بمكة – أي استقبال الكعبة – مع أنه يقول إنه على ملة إبراهيم ويأبى عن إتباع اليهودية والنصرانية، فكيف ترك قبلة إبراهيم واستقبل بيت المقدس؟! ولأنه قد تكررت الإشارة في الآيات السابقة إلى هذا الغرض بقوله: {وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ} (البقرة: 115). وقوله: {وَلَنْ تَرْضَىٰ عَنكَ ٱلْيَهُودُ وَلاَ ٱلنَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ…} [البقرة: 120] … وقد علم الله ذلك منهم فأنبأ رسوله بقولهم وأتى فيه بهذا الموقع العجيب وهو أن جعله بعد الآيات المثيرة له وقبل الآيات التي أُنزلت إليه في نسخ استقبال بيت المقدس والأمر بالتوجه في الصلاة إلى جهة الكعبة”.

وكشف عن وجه هذا الموقع البديع بقوله: “لئلا يكون القرآن الذي فيه الأمر باستقبال الكعبة نازلاً بعد مقالة المشركين فيشمخوا بأنوفهم يقولون غيَّر محمد قبلته من أجل اعتراضنا عليه، فكان لموضع هذه الآية هنا أفضل تمكن وأوثق ربط، وبهذا يظهر وجه نزولها قبل آية النسخ وهي قوله: {قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَآءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ…} (البقرة: 144)؛ لأن مقالة المشركين أو توقُّعَها حاصل قبل نسخ استقبال بيت المقدس وناشىء عن التنويه بملة إبراهيم والكعبة”.

ثم بين أن المراد بالسفهاء في الآية المشركون، واستدل على ذلك بقوله: “ويدل لذلك تبيينه بقوله {مِنَ ٱلنَّاسِ} فقد عُرف في اصطلاح القرآن النازل بمكة أن لفظ {ٱلنَّاسِ} يراد به المشركون، كما روي ذلك عن ابن عباس.
وقال إنه لا يظهر أن يكون المراد بالسفهاء هنا اليهود أو أهل الكتاب؛ “لأنه لو كان ذلك لَنَاسب أن يقال ((سيقولون)) بالإضمار لأن ذكرهم لم يزل قريباً من الآي السابقة إلى قوله: {وَلاَ تُسْأَلُونَ…} (البقرة: 134، 141)”.

وعضّد تفسيره للسفهاء بما ذكره الفخر عن ابن عباس والبراء بن عازب والحسن من أن المراد بالسفهاء المشركون، وبما ذكره القرطبي أنه قول الزجاج.
ويجوّز ابن عاشور أن يكون المراد بهم المنافقين، ولا سيما أنه قد سبق وصفهم بهذا في أول السورة، فيكون المقصود – كما يقول ابن عاشور – “المنافقين الذين يبطنون الشرك، والذي يبعثهم على هذا القول هو عين الذي يبعث المشركين عليه”، واستدل لهذا التجويز بما قد روي عن السدي أن السفهاء هنا هم المنافقون.

وعن إضافة القبلة إلى ضمير المسلمين في قوله تعالى حكاية عن السفهاء {عَن قِبْلَتِهِمُ}؛ بيّن ابن عاشور أن ذلك “للدلالة على مزيد اختصاصها بهم إذ لم يستقبلها غيرهم من الأمم؛ لأن المشركين لم يكونوا من المصلين، وأهل الكتاب لم يكونوا يستقبلونها في صلاتهم، وهذا مما يعضّد حمل «السفهآء» على المشركين إذ لو أريد بهم اليهود لقيل ((عن قبلتنا)) إذ لا يرضون أن يضيفوا تلك القبلة إلى المسلمين”.