الشجر آية من آيات الله عزّ وجل، يسجد لعظمته ويسبح بحمده ويخضع لنواميسه، خلقه تعالى بحكمته وبثّه في كل الأرض وأنبته في كل زاوية، أبدع ألوانه وأزهاره وثماره وأوراقه وبذوره، وقدر أعماره وأحجامه وتاريخ نضجه وموته، أسقاه بماء واحد وفضل بعض أصنافه على بعض ، وأخرج منه كل زوج كريم وكل زوج بهيج.
ومن هذه الأشجار؛ شجرة الزيتون المباركة التي أقسم الله تبارك وتعالى بها في كتابه العزيز وهو غني عن القسم لعباده،حين قال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}(التين: 1-3). وقد امتدح ربنا “تبارك وتعالى” كلاً من الزيتون وزيته في ستة مواضع أخرى من القرآن الكريم ، ومنها ذكر الله لشجرة الزيتون كواحدة من مكونات المثل الذي ضربه لنوره في السماوات والأرض، الأمر الذي يدل على اهتمام القرآن الكريم بالأشجار، فقد زادت الدنيا جمالاً إلى جمالها ونوراً إلى نورها.
قال تعالى: {اللَّهُنُورُالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِمَثَلُنُورِهِكَمِشْكَاةٍفِيهَامِصْبَاحٌالْمِصْبَاحُفِيزُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُكَأَنَّهَاكَوْكَبٌدُرِّيٌّيُوقَدُمِنشَجَرَةٍمُّبَارَكَةٍزَيْتُونِةٍ لَّاشَرْقِيَّةٍوَلَاغَرْبِيَّةٍيَكَادُزَيْتُهَايُضِيءُوَلَوْلَمْتَمْسَسْهُنَارٌ نُّورٌعَلَىنُورٍيَهْدِياللَّهُلِنُورِهِمَنيَشَاءوَيَضْرِبُاللَّهُالْأَمْثَالَ لِلنَّاسِوَاللَّهُبِكُلِّشَيْءٍعَلِيمٌ} (النور ، آية : 35).
وقد فسر قوله تعالى: “اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” بكونه منوِّر السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، فبنوره اهتدى أهل السماوات والأرض، وهذا إنما هو فعله، وإلا فالنور هو من أوصافه قائم به ومنه اشتق اسم النور الذي هو أحد الأسماء الحسنى، والنور يضاف إليه سبحانه على أحد وجهين: إضافة صفة إلى موصوفها، وإضافة مفعول إلى فاعله.
وفي قوله تعالى: :”مَثَلُ نُورِهِ” وهي أن أصل الإيمان يكون من الله عندما يشرح صدر عبده المؤمن للإسلام ويجعل له نوراً فيبدأ به النور والحياة، وقد شبه العلم المستفاد من الوحي الواصل للقلب بالزيت الجيد، فاستدامة النور وقوته وسلامته وتنامي حياة القلب، إنما تكون بالعلم بالكتاب والسنة والعمل به، فهي غذاؤه ومادة حياته. وإن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة تحمله، فتلك المادة للضياء بمنزلة غذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إلى مادة من العلم النافع والعمل الصالح يقوم بها ويدوم بدوامها، فإذا ذهبت مادة الإيمان طفيْ كما تطفأ النار بفراغ مادتها.
إن المثل دلَّ على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بزيادة العلم الواصل للقلب المستفاد من نور الكتاب والسنة، كما ينقص بنقصه، ومأخذ ذلك من المثل هو تشبيه العلم الذي يمد القلب بالمعارف والحقائق الإيمانية بالزيت الذي يمد المصباح بالوقود، وكون المصباح يزيد ضوءه ويصفو بزيادة الزيت وجودته والمؤمنون يتفاوتون بقوة النور الكائن في قلوبهم بحسب ما عندهم من العلم والإيمان وأكمل المؤمنين نوراً هو النبي ﷺ لكمال علمه وإيمانه.
وهناك تشابه بين الفطرة والفتيلة، من حيث إن كلاً منهما في أصل خلقه ووضعه مُهماً لاستدعاء وتشرّب ما يناسبه، فالفتيلة تتشرب الوقود المناسب وتمتصه وتتبلل به وتصبح مهيأة به للاشتعال إذا أوقدت، وكذلك الفطرة على الدين الحنيف التي فطر الله قلوب العباد عليها، مهيأة لاستدعاء ما يناسب ما فُطرت عليه من التوحيد والدين الحق، فإذا تشربت ما يرد إليها من ذلك من العلم بالكتاب والسنة، فإنها تكون مهيأة لإيقاد مصباح القلب وقذف نور الإيمان به، قال تعالى: ” فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ” (الروم ، آية : 30).
إن المثل دل على أثر نور العلم والإيمان على العقل، حيث أكسبه سلامة التعقل، وسداد النظر، وصحة الاستنتاج وأن الطريق إلى الحق في كل المطالب الدينية إنما يكون بإعمال العقل المستنير بالوحي النازل على الرسول ﷺ لاستخلاص الحقائق والمعارف اليقينية وغيرها، وأن العقل المجرد عن العلم لا سبيل له إلى تلك الحقائق، كما دل المثل على أن النور سطع وأشرق على كل أعمال القلب ووظائفه الأخرى من العقائد، والعواطف، والإرادات، والانفعالات، فأخصبها بالخير والسلام والصلاح.
وفي قوله تعالى: “نُّورٌ عَلَى نُورٍ” دل على أن نور القرآن والسنة والعلم المستفاد منهما يغذي نور الإيمان ويزيده ويقويه، وفي قوله تعالى: “وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ” (النور ، آية : 40)، دليل على أن النورين من الله، نور الإيمان الذي يقذف في القلب ونور العلم الذي طريقه الوحي، فمن هُدي إلى الأول واهتدى بالثاني فقد أعطاه الله نوراً تاماً، ومن أخطأه الله فليس له من نور، بل في طريق من طرق الضلال سائر في الظلمات.
وفي قوله: ” يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ” نور زيت الزيتون كان أصفى نور يعرفه المخاطبون، ولكن ليس لهذا وحده كان اختيار هذا المثل، إنما كذلك الظلال المقدسة التي تلقيها الشجرة المباركة، وظلال الوادي المقدس في الطور ، وهو أقرب منابت الزيتون لجزيرة العرب وهي شجرة معمرة، وكل ما فيها ينفع الناس زيتها وخشبها وورقها وثمرها ومرة أخرى يلتفت من النموذج الصغير ليذكر بالأصل الكبير، فهذه الشجرة ليست شجرة بعينها وليست متحيزة إلى مكان أو جهة إنما هي مثل مجرد للتقريب: ” لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ” وزيتها ليس زيتاً من هذا المشهود المحدود، إنما هو زيت آخر عجيب ” يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ” فهو من الشفافية بذاته، ومن الإشراق بذاته، حتى ليكاد يضيء بغير احتراق.
ــ وذكر الله تعالى شجرة الزيتون في موضع آخر من كتابه العزيز في قوله: { وَشَجَرَةًتَخْرُجُمِن طُورِسَيْنَاءتَنبُتُبِالدُّهْنِوَصِبْغٍلِّلْآكِلِينَ} (المؤمنون ، آية : 20).
وهذه الآية تشير بوضوح إلى شجرة الزيتون التي تؤكل ثمارها ويؤتدم بزيتها وبما فيه من منافع للناس، وفي قوله: ” تَنبُتُ بِالدُّهْنِ” أي: تنبت ثمارها ملتبسة بالدهن وهو زيت الزيتون ” وَصِبْغٍ لِّلْآكِلِينَ”” أي: إدام وطعام لهم سمي صبغاً لكونه إداماً، ولأنه يصبغ الخبز إذا لامسه، ولعل في ذلك إشارة إلى ما هو غير الدهن من مئات المركبات الكيميائية المهمة التي مكن الله “تعالى” شجرة الزيتون من استخلاصها من ماء وتربة الأرض ونقلها في العصارة الغذائية، وتخليقها في أوراقها وثمارها من تعجز أكبر المصانع التي بناها الإنسان عن تحقيقه .
وقد ثبت بالدراسة أن أفضل الزيوت النباتية على الإطلاق هو زيت الزيتون وذلك لما أعطاه الله (تعالى) من خاصية خفض ضغط الدم، وتقليل امتصاص الجسم للكلوليسترول بصفة عامة، وإنقاص المعدل الكلي للكوليسترول في الدم بحوالي 13% وإنقاص معدل الكوليسترول الخفيف بنسبة 21% فيرفع نسبة الكوليسترول المفيد نسبياً في الدم، والمعروف باسم الكوليسترول الثقيل.
ومن الثابت طبياً أنه كلما انخفضت نسبة الكوليسترول الضار وزادت نسبة المفيد منه في الدم قلة نسبة الإصابة بالجلطة القلبية من مثل الإصابة المعروفة باسم “احتشاء العضلة القلبي”، وعلى ذلك فإن تناول زيت الزيتون بكميات منتظمة يحمي القلب من أمراض انسداد الشرايين وهي من أكثر الأمراض انتشاراً في الزمن الحاضر، وقد ثبت بالتحليل الدقيق احتواء كل من ثمرة الزيتون وزيتها على مركبات كيميائية تمنع تخثر الدم وانطلاقاً من ذلك يوصي الأطباء كل من أجريت لهم عمليات توسعة لشرايين القلب بتناول 4 ـ 5 ملاعق من زيت الزيتون، ويستخدم في إنتاج العديد من الأدوية والدهانات الطبية، وزيوت الشعر، والصابون، وبه كانت توقد المصابيح في المنازل والمساجد قديماً، لصفاء اللهب الناتج عن اشتعاله.
وهذه الآيات المباركات التي ذكر فيها الحق تبارك وتعالى الزيتون وزيته، وما أثبتته نتائج الأبحاث العلمية الدقيقة، يشهد بها غير المسلمين قبل علماء المسلمين، وقد أراد المولى سبحانه وتعالى المحيط ببواطن الأمور أن تكون هذه الإشارات العلمية في كتابه الكريم وبما علمه رسوله الكريم. مما يدل دلالة واضحة لا لبث فيها و لا غموض أن القرآن الكريم هو كلام رب العالمين، ويشهد للرسول الخاتم، فالحمد لله على نعمة القرآن والإسلام.