شرعت الزكاة في الشريعة الإسلامية على مرحلتين: في مكة والمدينة، فالزكاة المقدّرة المعروفة بمصارفها الثمانية شرعت في المدينة، وكان قبلها زكاة في العهد المكيِّ وكانت مطلقة من القيود، والحدود، وكانت موكولة إلى إيمان الأفراد، وأرْيَحِيَّتهم، وشعورهم بواجب الأخوَّة نحو إخوانهم من المؤمنين، فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذلَ الكثيرِ، أو الأكثر.
شرّع الله الزكاة المقدّرة في السَّنة الثانية للهجرة؛ الَّتي هي ركنٌ من أركان الإسلام، وكان ذلك بعد شهر رمضان؛ لأنَّ تشريع الزَّكاة العامَّة كان بعد زكاة الفطر، وزكاة الفطر كانت بعد فرض صيام رمضان قطعاً؛ يدلُّ على هذا ما رواه الأئمَّة: أحمد، وابن خزيمة، والنَّسائيُّ، وابن ماجه، والحاكم من حديث قَيْس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما قال: «أمَرَنا رسول الله ﷺ بصدقة الفطر قبل أن تَنْزِل الزَّكاةُ، ثمَّ نزلت الزَّكاةُ، فلم يأمرنا، ولم ينهنا ونحن نفعله»، قال الحافظ ابن حجر: «إسناده صحيحٌ»، «وجمهور العلماء سلفاً، وخلفاً على أنَّ مشروعية الزَّكاة إنما كانت بالمدينة في السَّنة الثَّانية». [السِّيرة النَّبوية ، لأبي شهبة، 2/111].
فكانت الآيات المكِّيَّة تهتمُّ بجانب التَّربية، والتَّوجيه، وتحثُّ على رعاية الفقراء والمساكين بأساليب متنوعةٍ، منها: أنَّ إطعام المساكين من لوازم الإيمان، ففي سورة المدَّثر – وهي من أوائل ما نزل من القرآن – يعرض القرآن الكريم مشهداً من مشاهد الآخرة، مشهد أصحاب اليمين من المؤمنين، في جنَّاتهم يتساءلون عن المجرمين من الكفرة، وقد أُطبقت عليهم النِّيران، فيسألونهم عمَّا أحلَّ بهم هذا العذاب، فكان من أسبابه، وموجباته: إهمال حقِّ المسكين، وتركه لأنياب الجوع والعُري تنهشه، وهم عنه معرضون، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦)﴾ [المدثر: 38-46].
وقصَّ الله على عباده قصَّة أصحاب الجنَّة، الَّذين تواعدوا أن يقطفوا ثمارها بِلَيْلٍ؛ ليحرموا منها المساكين – الَّذين اعتادوا أن يصيبوا شيئـاً من خيرها يوم الحصاد – فحلَّت بهم عقوبة الله العاجلة: ﴿فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [القلم: 19-33].
ولم تقف عناية القرآن المكِّيِّ عند الدَّعوة إلى الرَّحمة بالمسكين، والتَّرغيب، في إطعامه، ورعايتـه، والتَّرهيب من إهمالـه والقسوة عليـه؛ بل تجاوز ذلـك، فجعل في عنق كلِّ مؤمنٍ حقاً للمسكين، أن يحضَّ غيره على إطعامـه، ورعايته، وجعل تَـرْكَ هذا الحضِّ قرينَ الكفر بالله العظيم، وموجبـاً لسُخْطه – سبحانه – وعذابه في الآخرة.
قال تعالى في شأن أصحاب (الشِّمال): ﴿خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ﴾ [الحاقة: 30-32] .
وَلِمَ كلُّ هذا العذاب، والهوان، والخزي على رؤوس الأشهاد؟: ﴿إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الحاقة: 33-34].
وهذه الآيات المزلزِلة للقلوب، المنذرة بالعذاب، هي الَّتي جعلت مثلَ أبي الدَّرداء – رضي الله عنـه – يقول لامرأتـه: «يا أمَّ الدرداء! إنَّ لله سلسلةٌ ولم تزل تغلي بها مرَاجِلُ النَّار منذ خَلقَ الله جهنَّمَ، إلى يوم تُلقى في أعناق الناس، وقد نجَّانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحُضِّي على طعام المسكين يا أمَّ الدَّرداء». [فقه الزَّكاة، القرضاوي، 1/70].
أمَّا القرآن المدني، فقد نزل بعد أن أصبح للمسلمين جماعةٌ، لها أرضٌ، وكيانٌ وسلطان؛ فلهذا اتَّخذت التَّكاليف الإسلاميَّة صورةً جديدةً ملائمةً لهذا الطَّور: صورة التحديد، والتَّخصيص، بعد الإطلاق والتَّعميم، صورة قوانين إلزاميَّة، بعد أن كانت وصايا توجيهيةً فحسب، وأصبحت تعتمد في تنفيذها على القوَّة والسُّلطان، مع اعتمادها على الضَّمير، والإيمان، وظهر هذا الاتِّجاه المدنيُّ في الزَّكاة؛ فحدَّد الشَّارع الأموال التي تجب فيها، وشروط وجوبها، والمقادير الواجبة، والجهات التي تُصرف لها، وفيها، والجهاز الذي يقوم على تنظيمها وإدارتها، وأكَّد النَّبيُّ ﷺ في المدينة فريضة الزَّكاة، وبيَّن مكانتها في دين الله، وأنَّها أحد الأركان الأساسية لهذا الدِّين، ورغَّب في أدائها، ورهَّب من منعها بأحاديث شتَّى، وأساليب متنوعةٍ. [فقه الزَّكاة، 1/78].
وأعلن الرَّسول ﷺ في أحاديثه: أنَّ أركان الإسلام خمسةٌ، بدأها بالشَّهادتين، وثنَّاها بالصَّلاة، وثلَّثها بالزَّكاة، فالزَّكاة في السُّنَّة – كما هي في القرآن – ثالثةُ دعائم الإسلام: الَّتي لا يقوم بناؤه إلا بها، ولا يرتكز إلا عليها، وعندما طبَّق المسلمون هذا الرُّكن كما أمر الله تعالى، وكما شرع رسولُه ﷺ ، تحقَّقت أهدافٌ عظيمة في المجتمع، وبرزت آثارها في حياة الفرد، والمجتمع.
فمن آثار الزَّكاة على الفرد
أ – الوقاية من الشُّحِّ:
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9] .
ب – تنمية المال وزيادته:
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وقال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 276] .
وقال ﷺ : «ما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ من مالٍ» [مسلم (2588) والترمذي (2029) ومالك في الموطأ (2/1000)].
وقال ﷺ : «ما من يومٍ يُصبحُ العبادُ فيه إلا مَلَكانِ يَنزلان، فيقول أحدُهما: اللَّهمَّ أعطِ منفقاً خَلَفاً، ويقول الآخر : اللَّهُمَّ أعطِ مُمْسِكاً تَلَفاً» [البخاري (1442) ومسلم (1010)].
وهكذا يتمُّ تطهير نفس المسلم من افة الشُّحِّ، والبُخل، ويسارع إلى الآنفاق، موقناً بفضل الله، ووعده الذي لا يتخلَّف بالرِّزق الواسع. [منهج الإسلام في تزكية النفس، 1/249].
ج – حصول الأمن في الدُّنيا والآخرة:
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [البقرة: 274] .
فهم في أمنٍ، وسعادةٍ، وراحةِ بالٍ؛ لأنَّهم أدَّوا ما أمرهم الله تعالى به، وانتهوا عمَّا نهاهم الله عنه.
ومن آثار الزَّكاة على المجتمع: حصولُ المحبَّة بين الأغنياء والفقراء، وشيوع الأمن والطُّمَأْنِينَة في أوساطه، وشعور الأفراد فيما بينهم: أنَّهم كالجسد الواحد، قال ﷺ : «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثَلُ الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى» [مسلم (2586) وأحمد (4/270)]، ومن الآثار أيضاً حفظ التوازن الاجتماعي. [المال في القرآن الكريم، ص240].
عندما كانت الزَّكاة تُجْمَع من كلِّ من تجب عليه، وتُنفَق في سبلها المشروعة في صدر الإسلام؛ كان المجتمع الإسلاميُّ يعيش في رخاءٍ، ورغدٍ، وتمتُّعٍ بالطَّيبات، وتالفٍ، وتاخٍ، وتحاببٍ؛ فقد روى الرُّواة: أنَّه في عهد خامس الخلفاء الرَّاشدين، عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أخصب النَّاس، واغتنوا، حتَّى إنَّهم بحثوا عن مستحقٍّ للصَّدقة، فلم يجدوا، فما كان منهم إلا أن اشترَوا بها عبيداً، وأعتقوهم لوجه الله، وهكذا بلغ الإسلام في عصوره الأولى، بمستوى حياة المسلمين ومعيشتهم حدّاً لم تبلغه إلا أممٌ قليلـةٌ اليـوم، وذلك بفضل تشريع الزَّكاة. [السِّيرة النَّبوية ، لأبي شهبة، 2/115].
المراجع:
1- السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القرآن والسُّنَّة لمحمد أبو شهبة، دار القلم – دمشق، الطَّبعة الثَّالثة، 1417هـ 1996م.
2- الأموال، لأبي عبيد القاسم بن سلام، مؤسَّسة ناصر الثَّقافية – بيروت.
3- فقه الزَّكاة للقرضاوي، مكتبة وهبة، الطَّبعة الحادية والعشرون، 1414 هـ 1994 م.
4- منهج الإسلام في تزكية النفس، د. أنس أحمد كرزون.
5- السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2004م.