ليالي الحب والشوق أقبلت، ليالي العشر الأخيرة من رمضان، التي لا تحمل معها إلا عنوانا واحدا هو: الاجتهاد، وهو عنوانها الأكبر، إذ به يصل المرء إلى ربه، وهو يعلم أنها أيام معدودات، يقوده فيها الحب والشوق إلى الله تعالى.
يقول الحسن البصري (رحمه الله): “القلب الذي يحب الله يحب التعب ويُؤثر النصب، هيهات لا ينال الجنة من يُؤثر الراحة، مَنْ أحب الله سخا بنفسه إن صدق وترك الأماني، فإنها سلاح النَّوْكى (الحمقى):
إذا أنا لم أشْكرك جَهْدي وطـاقتي ولمْ أُصْفِ من قلبـي لك الودَّ أجمعـا
فلا سَلمتْ نفسي من السَّقْم ساعة ولا أبْصرتْ عيني من الشمس مطلعا
قَالَ الشَّافِعِيُّ (رحمه الله): “وَيُسَنُّ زيادةُ الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان“.
لماذا الليالي العشر؟
يقول ابن رجب: “وكل زمان فاضل من ليل أو نهار عموما آخره أفضل من أوله، كيوم عرفة، ويوم الجمعة، وكذا الليل والنهار عموما آخره أفضل من أوله”.
ب – احتواؤها على ليلة القدر:
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (القدر:1-5).
وعن السيدة عائشة (رضي الله عنها) قالت: “كان رسول الله (ﷺ) يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان” (رواه الشيخان والترمذي). ومعنى يجاور: أي يعتكف.
ولقد ورد الفضل العظيم في العبادة في ليلة القدر، فهي خير من ألف شهر، وأخبر النبي (ﷺ) أن من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النَّبيِّ (ﷺ) قال: “مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانا وَاحْتِسَابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” رواه البخاري ومسلم.
أطلّّي غُرّةَ الدهرِ .. أطلي ليلةَ القدرِ أطلي درّةَ الأيام .. مثلَ الكوكب الدرّي
أطلّي في سماء العمر .. إشراقا مع البدرِ سلامٌ أنتِ في الليل .. وحتى مطلعِ الفجرِ
سلامٌ يغمرُ الدنيا .. يُغشّي الكونَ بالطهرِ وينشرُ نفحةَ القرآنِ .. والإيمانِ والخيرِ
لأنكِ منتهى أمري ..فإني اليوم لا أدري فأنتِ أنتِ أمنيتي.. لأنك ليلة القدرِ
ما هي الأعمال الصالحة في الليالي العشر من رمضان؟
1 – إحياء الليل:
فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ﷺ) كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزر ومعنى إحياء الليل: أي استغرقه بالسهر في الصلاة والذكر وغيرهما، وقد جاء عند النسائي عنها أنها قالت: لا أعلم رسول الله (ﷺ) قرأ القرآن كله في ليلة ولا قام ليلة حتى أصبح ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان.
2 –الاعتكاف:
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: « إن رسول الله ﷺ اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه، قال: وإني أربئتها ليلة وتر، وإني أسجد صبيحتها في طين وماء، فأصبح من ليلة إحدى وعشرين، وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء، فوكف المسجد فأبصرت الطين والماء، فخرج حين فرغ من صلاة الصبح، وجبينه وروثة أنفه فيهما الطين والماء، وإذا هي ليلة إحدى وعشرين من العشر الأواخر » (صحيح مسلم 1167).
وقد روى البخاري أنه (عليه الصلاة والسلام) اعتكف في العام الذي قبض فيه عشرين يوما.
قال الإمام الزهري (رحمة الله): “عجبا للمسلمين؛ تركوا الاعتكاف مع أن النبي (ﷺ) ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
3 – تنويع العبادة:
فقد ورد أن النبيَّ (ﷺ) كان يجتهد فيها أكثر مما يجتهد في غيرِهِا، وهذا شاملٌ للاجتهاد في جميع أنواع العبادات من صلاة وقرآن وذكر وصدقة وغيرها؛ ولأنَّ النبيَّ (ﷺ) كان يَشدُّ مئزرَه يعْني يعتزلُ نساءَه ليتفَرغَ للصلاةِ والذكرِ، ولأنَّ النبيَّ (ﷺ) كان يُحْيي ليلَه بالقيامِ والقراءةِ والذكرِ بقلبه ولسانِه وجوارِحِه لِشَرفِ هذه الليالِي وطلبا لليلةِ الْقَدْرِ التي مَنْ قامها إيمانَا واحتسابا غَفَرَ اللهُ له ما تقدمَ من ذنبه.
4- إيقاظ الأهل:
وهذا من باب كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فكان (ﷺ) لا يترك أحدا من أهله يستطيع القيام للعبادة والسهر للإحياء والقوة على ذلك إلا أيقظه، ذكر في فتح الباري: روى الترمذي ومحمد بن نصر من حديث زينب بنت أم سلمة: “لم يكن النبي (ﷺ) إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدا من أهله يطيق القيام إلا أقامه ؛ وكان (ﷺ) – يجتهدُ في العبادة في هذا الشهر أكثر من غيره من الشهور ويجتهد في العشر الأخيرة ما لم يجتهده في العشرين الأولى منه، ففي المسند عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي (ﷺ) يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر شمَّر وشد المئز فيسهر ليله، ويطوي فراشه ويودع النوم – وإن كان النوم في جميع ليالي عمره قليلا – ويُلزم من يطيق من أهله ذلك معه.
وروى مسلم رحمه الله عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: “كان رسول الله (ﷺ) يُحْيي الليل بالصلاة والدعاء وغيرهما من الطاعات وكان يشرك أهله في هذا الخير، فيوقظهم لقيام الليل معه”.
في هذا دليل على مشروعية إيقاظ الأهل ليالي العشر، والمراد هنا تأكيد الاستحباب وإلا فهذا الفعل مسنون في جميع الأيام، كما روى أبو داود من حديث أبي صالح عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (ﷺ) قال: “رحم الله رجلا قام من الليل فصلى ثم أيقظ امرأته فصلت فإنه أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت من الليل فصلت ثم أيقظت زوجها فصلى فإن أبى نضحت في وجهه الماء.
قال سفيان الثوري: “أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل، ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك.
وقد صحَّ أن النبي (ﷺ) كان يطرق فاطمة وعليا ليلا، فيقول لهما: “ألا تقومان فتصليان” (رواه البخاري).
يروى أن امرأة حبيب أبي محمد كانت تقول له بالليل: “قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا:
يا نائـم الليـل كـم ترقـد قم يا حبيبي قد دنا الموعدُ
وخذ مـن الليـل وأوقاتـه وردا إذا ما هَجَـعَ الرُّقـدُ
من نـام حتى ينقضي ليلـهُ لم يبلغ المنزل قبل أو يُجْهَدُ
قل لذوي الألباب أهلُ التقى قنطرةُ العرض لكـم موعـدُ
5 – الإكثــار من الدعـــاء:
فالليالي ليالي بر وخير وإحسان، وقد قال النبي (ﷺ) للصائم دعوة عند فطره لا ترد، وأخبر (ﷺ) أن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير من الليل فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له، هل من مستغفر فأغفر له. وحين سألته عائشة (رضي الله عنها) فقالت له: “أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني. (رواه الترمذي وابن ماجه وصححه الألباني).
6 – الابتعاد عن التنازع والخصام:
لأنه سببٌ في منع الخير وخفائه فعن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي (ﷺ) ليخبرنا ليلة القدر فتلاحى -أي تخاصم وتنازع- رجلان من المسلمين، فقال: “خرجتُ لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت” (رواه البخاري).
7 – كثرة تلاوة القرآن:
فإن كنت تختمه كل أسبوع مرة في الأيام العشرين الأولى من رمضان، فاختمه كل ثلاث ليال في العشر الأخيرة من رمضان، وإن كنت تختمه كل ثلاثة أيام فاختمه في العشر الأخيرة في كل ليلة مرة، ولقد كان هذا هو عمل السلف، فقد روي أن الأسود بن يزيد (رحمه الله) كان يختم المصحف في ست ليالي فإذا دخل رمضان ختمه في ثلاث ليال، فإذا دخلت العشر ختمه في كل ليلة، وكان الشافعي (رحمة الله) يختمه في العشر في كل ليلة وكذا روي عن أبي حنيفة (رحمه الله).
وقد أفاد الحافظ بن رجب (رحمه الله) أن النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث إنما هو على الوجه المعتاد، أما في الأماكن الفاضلة كمكة لمن دخلها أو في الأوقات الفاضلة كشهر رمضان والعشر منه فلا يكره وعليه عمل السلف.
8 – الاغتسال ولبس الجديد من الثياب:
يُروى عن السلف أنهم كانوا إذا دخلت الليالي العشر اغتسلوا في كل ليلة، وخصوا الليالي الوترية بثياب جديدة.
قال ابن جرير: كانوا يحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر.
وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة، ومنهم من يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر.
وقال حماد بن سلمة: كان ثابت البناني وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما، ويتطيبان ويطيبون المسجد في الليلة التي تُرجى فيها ليلة القدر.
وقال ثابت: كان لتميم الداري حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدر.
وذكر ابن جرير (رحمه الله) “أن كثيرا من السلف الصالح كانوا يغتسلون في كل ليلة من ليالي العشر، كان يفعل ذلك أيوب السختياني (رحمه الله)، وكان يفعله الإمام مالك (رحمه الله) فيما يرجح عنده أنه من ليالي القدر، فيغتسل ويتطيب ويلبس حلة لا يلبسها إلى العام القادم من شهر رمضان، وكان غيرهم يفعل مثل ذلك.
فهيا إخواني، لتكن لنا وثبة في هذه الليالي العشر إلى الجنة وإلى رضوان الله، ولنجتهد قدر طاقتنا، ولنتذكر أن المحروم في هذا الشهر مَنْ حُرِمَ مغفرة الذنوب والعتق من النار، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عتقائه من النار ومن المقبولين.
أحمد زهران5>