عندما تُذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها يرد إلى الذهن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لها وما تعرضت له من فتنة الإفك لكن منقبة  عظيمة من مناقبها ربما تتوراى عن بعض الأعين هو كثرة روايتها لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنقبة أخرى تفوق بها  كثير من الصحابة رجالا ونساء ،هو فقهها في الحديث واستدراكها على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وربما ينشغل الذهن بما يتابعه من أحداث جسيمة ومنطقة تتحرك على صفيح ساخن إلا أن جزءا من أزمتنا هذه هو قبول الأخبار دون تمحيص فلنتعلم من امرأة ينتظر من بنات جنسها كل شئ غير العقل والحكمة فضلا عن نقد ما تسمعه ورده إلى القواعد الكبرى التي تحكم الدين والتي غابت وتغيب عن عدد ممن يتصدرون للحديث باسم الدين .

وقد كان للإمام الزركشي فضل الكشف عن جانب عظيم من فقه السيدة عائشة رضي الله عنها في كتابه:”الإجابة لما استدركته عائشة على الصحابة” فيقول:جمعت فِيْهِ مَا تَفَرَّدَتْ بِهِ الصِّدِّيْقَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَوْ خَالَفَتْ فِيْهِ سِوَاهَا بِرَأْيٍ مِنْهَا أَوْ كَانَ عِنْدَهَا فِيْهِ سُنَّةً بَيِّنَةً، أَوْ زِيَادَةُ عِلْمٍ مُتْقَنَةٌ، أَوْأَنْكَرَتْ فِيْهِ عَلَى عُلَمَاءِ زَمَانِهَا، أَوْ رَجَعَ فِيْهِ إِلَيْهَا أَجِلَّةٌ مِّنْ أَعْيَانِ أَوَانِهَا، أَوْحَرَّرَتْهُ مِنْ فَتْوَى، أَوِ اجْتَهَدَتْ فِيْهِ مِنْ رَأْيٍ رَأَتْهُ أَقْوَى؛مُورِدًا مَا وَقَعَ إِلَيَّ مِنْ اخْتِيَارَاتِهَا)ويمكننا أن نضع عنوانا لذلك كله هو طريقة السيدة عائشة رضي الله عنها في نقد المرويات .

ويمكن أن نشير إلى بعض ملامح منهجها في نقد المرويات فنقول:

1- التماس الأعذار، فحين تعقب أو تستدرك تلتمس العذر كما في حديث تعذيب المؤمن ببكاء أهله عليه حيث قالت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : رَحِمَ اللهُ عُمَرَ مَا كَذِبَ وَ لَكِنَّهُ أَخْطَأَ وَنَسِيَ.

2- وكانت رضي الله عنها تغضب أشد الغضب اذا أُسيء فهم ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

دخل رجلان عَلَى عَائِشَة فَقَالاَ: إن أَبَا هُرَيْرَةَ يحَدَّثَ أن نبي الله ِصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُوْل إِنَّمَا الطيرة فِي الْمَرْأَة و الدابة وَ الدار قَالَ: فطارت شقة مِنْهَا فِي السَّمَاء وَشقة مِنْهَا فِي الْأَرْض [وصف لكل من اشتدغضبه] وقَالَتْ: والَّذِيْ أنَزَلَ الْقْرْآن عَلَى أَبِي الْقَاسِم مَا هَكَذَا كَانَ يَقُوْل الطيرة فِي الْمَرْأَة و الدابة وَ الدار ثُمَّ قرأت عَائِشَة { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحديد: 22]

3- الاستدلال بالقرآن: فهي التي احتكمت إلى القرآن، حين قالت: حَسْبُكُمْ الْقُرْآنُ: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، في حادثة غير واحدة.

وتجمع بين آياته كما حدث حين ردت قول من قال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه قالت :مَنْ زَعَمَ أن مُحَمَّدا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَة. فقالْ مسروق: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِيْنَ!انْظُرِيْنِيْ وَلَا تَعْجِلِيْنِيْ أَلَمْ يَقُلْ عَزَّوَجَلَّ:{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى} فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيْلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى عِظَمِ خَلْقِهِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ وَ قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ يَقُوْلُ: { لَاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} أَوَلَمْ تَسْمَعْ أَنَّ اللهَ عَزَّوَجَلَّ يَقُوْلُ:{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ}

(ولا يهمنا هنا أن نبحث عن مدى صحة نقدها وكيف أجيب عن اعتراضاتها، لكننا نبحث عن منهجها في النقد فقط.

وقد استخدمت رضي الله عنها هذا المنهج بأشكال مختلفة، ولكنها كانت تأتي بالآية القرآنية لتؤيد بها ما ذهبت إليه في تصحيح الرواية أو ردها أو بيان خصوصيتها ودلالة معانيها)

4- الاعتماد على سبب ورود الحديث – وهي عندما تستدرك على غيرها تبين سبب ورود الحديث وفيمن قاله النبي صلى الله عليه وسلم

بَلَغَ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُوْلُ: إِنَّ رَسُوْلَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلاثَةِ ، وَإِنَّ الْمَيِّت يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ.

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسَاءَ سَمْعًا ، فَأَسَاءَ إِصَابَةً؛

أَمَّا قَوْلُهُ : وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلاثَةِ ، فَلَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا ، إِنَّمَا كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ ، يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله ِعَلَيْهِ وسلم ، فَقَالَ : مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ فُلانٍ ؟ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،إِنَّهُ – مَعَ مَا بِهِ- وَلَدُ زِنًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هُوَ شَرُّ الثَّلاثَةِ ، وَاللَّهُ عَزَّوَجَلَّ ، يَقُولُ :{ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}

وَأَمَّا قَوْلُهُ : إِنَّ الْمَيِّت لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَيِّ ، فَلَمْ يَكُنِ الْحَدِيثُ عَلَى هَذَا ، وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِدَارِ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ قَدْ مَاتَ ، وَأَهْلُهُ يَبْكُوْنَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَبْكُوْنَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ ، وَاللَّهُ عَزَّوَجَلَّ ، يَقُولُ :{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}

قَالَ الْحَاكِمُ: هَذَا حَدِيْث صَحِيْحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِم وَ لَمْ يُخْرِجَاهُ .

5- الاحتجاج بما تعرفه من شأن الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته، فقد تنفي بعض المرويات اعتمادا على ما تعرفه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ذُكر عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ الصَّلَاة؛ الكلب وَالحِمَار وَالْمَرْأَة فَقَالَتْ عَائِشَةُ: شبهتموها بالحمير وَالكلاب وَالله ِلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ يُصَلِّيْ وأَنَا عَلَى السرير بينه وبين القبلة مضطجعة فتبدو لِيْ الْحَاجّة فأكره أن أجلس فأوذي رَسُوْل اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأَنَسل من عِنْدَ رجليه.

ذكره الْبُخَارِيّ فِي بَاب من قَالَ: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاة شَيْء.

تجد أنها تنكر ما روي في هذا الشأن مبينة ما يؤول إليه القول بقطع المرأة للصلاة من احتقار لشأنها ومساوتها بالحيوانات

6- معارضة حديث بحديث آخر:  وفيه أن أم المؤمنين قد ترد حديثًا لأنه يتناقض مع حديث آخر، مكتــفية بهذا أو تـــرد روايــة بــروايـــة أخــرى في نفس الحديث، ولكنها تأتي بالمرجح سواء كان عقليًا أو متناسبًا مع ما هو معلوم من الدين بالضرورة.
ـ مثال معارضة حديث بحديث: وفيه رد أم المؤمنين رضي الله عنها لرواية أبي هريرة مرفوعة: (من لم يوتر فليس منا) ، فلما بلغها ذلك قالت: من سمع هذا من أبي القاسم صلى الله عليه وسلم؟ ما بَعُد العهد وما نسينا، إنما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (من جاء بالصلوات الخمس يوم القيامة حافظًا على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها لم ينتقص منهن شيئاً، كان له عند الله عهد ألا يعذبه، ومن جاء وقد أنقص منهن شيئاً فليس له عند الله، إن شاء رحمه وإن شاء عذبه)[المعجم الأوسط] ، وهنا تقابل هذه الرواية عن الوتر، لا بآية قرآنية، بل بحديث نبوي آخر، وهو يجعل الصلوات الواجبة خمسًا، ولو صح إيجاب الوتر لأصبحت ست صلوات، وهو مخالف لنص الحديث.

ـ مثال معارضة رواية برواية مع الإتيان بالمرجح: وهذا كما في نقدها رواية ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم )، فقد بينت عائشة أن ابن عمر قد غلط في روايته، وأتت بالرواية على الوجه الذي تعلمه صحيحًا وجاءت بالمرجح العقلي، هو أن مؤذن الفجر ينبغي أن يكون بصيرًا، ليرقب انفجار الفجر الذي تتعلق به الأحكام، بخلاف مؤذن الليل الذي لا يشترط فيه أن يكون مبصرًا، لأن أذانه لا تتعلق به الأحكام، وكان ابن أم مكتوم كفيف البصر وكان بلال مبصرًا، فأيهما أولى أن يكون مؤذنًا للفجر؟ وفي هذا قالت رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ابن أم مكتوم رجل أعمى، فإذا أذن فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال ) ، قالت: (وكان بلال يبصر الفجر)، وكانت عائشة تقول: (غلط ابن عمر)
هذه بعض الطرق التي كانت تتخذها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في نقد الروايات، وتصويبها، بعرض الرواية الراجحة والتدليل عليها بحجة خارجية سواء كانت آية أو حديثًا أو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا تتبعنا هذا المنهج نراه يعتمد على الفهم الحصيف والنظر الحصيف في متن الحديث مع سعة الحفظ . [انظر: دور المرأة في خدمة الحديث في القرون الثلاثة الأولى آمال بنت حسين قرداش]

وعلى درب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سارت مؤمنات على اختلاف العصور ينهلن من نبع السنة النبوية ويقدمن ما بوسعهن في خدمتها وقد وقفت على كتاب للأستاذه “سمر العشا” بعنوان:” التيسير في حفظ الأسانيد (أسانيد صحيح البخاري)”، قامت فيه بتنسيق أسانيد الجامع الصحيح وضبطها تسهيلا لحفظها وقد بذلت جهودا كبيرة يمكن الإشارة إلى بعضها وهو أنها وضعت بين أيدينا قائمة الأسانيد التي توفر فيها شرط البخاري في صحيحه كما ذكر الدكتور بديع اللحام في تقريظه لهذه الموسوعة .