شاع في الأيام الأخيرة فيديو بعنوان “حقائق صادمة عن البخاري” نشَره موقع “أصوات مغاربية” وشاركه موقع “قناة الحرة”، وهو ما أثار عددًا من التساؤلات دفعت بعضهم إلى طلب توضيحات علمية حول محتوى الفيديو. يدور محتوى الفيديو على خمس مسائل رئيسة سأوضحها ثم أبين ما فيها.

المسألة الأولى: يُظهر الفيديو أن نَسَب البخاري يُحيل إلى أنه “ليس عربيًّا” في إشارة مبطَّنة إلى موقف عنصريّ من موقع يدّعي على صفحته أن مهمته إيصال “صوت الأقليات”، وهذا الوعي القومي مُحدَثٌ؛ لأن الإسلام شكّل لقرون طويلة ثقافة شعوب متنوعة الأعراق والثقافات من العرب والترك والفرس وغيرهم، ففكرة تعريف علماء الإسلام (ما قبل الدولة القومية) بأعراقهم هو إسقاط لمشاكل الحاضر على تاريخ رحب وشاسع، فسيبويه إمام العربية لم يكن عربيًّا بهذا المعنى القومي الضيّق!

الطريف أن الفيديو يحكي عن البخاري أنه “عاش في أوزبكستان وهي منطقة على الهامش بعيدة عن المراكز الدينية في تلك المرحلة”، وهذا القول يكشف عن جهل مُعدّي الفيديو بتاريخ بخارى التي تنتمي إلى (تركستان) التي كانت جزءًا من ولاية (خراسان) زمن الأمويين والعباسيين وغَدَت بعد الفتح الإسلامي من أهم الحواضر الإسلامية، وخرج منها الكثير من الفلاسفة والفقهاء والمحدّثين من أشهرهم البخاري وابن سينا، وفي 1924 قُسِّمت “جمهورية بخارى” بين طاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان وباتت مدينة بخارى إحدى المدن المهمة في جمهورية أوزبكستان. ولأهمية بخارى خَصَّها عدد من المؤرخين بكتب مستقلة من أقدمها “تاريخ بخارى” لأبي بكر بن جعفر النرشخي (ت348هـ)، ومن أحدثها كتاب “تاريخ بخارى منذ أقدم العصور حتى العصر الحاضر” للمستشرق المجري أرمينيوس فامبري كتبه سنة (1872م)

الثانية: يقول الفيديو: “شككت كتب كثيرة عبر العصور في أحاديث البخاري”، وهذه مقولة كاذبة فقد وُجدت انتقاداتٌ محدودةٌ زمانًا، ومعدودة أحاديثًا، فلا الكتب كثيرة، ولا هي “شككت” في أحاديثه، وسأوضح هذه المسألة لاحقًا، ولكن يُهمني هنا مناقشة الأسباب التي لأجلها وقع التشكيك- بحسب الفيديو – في أحاديث البخاري وتتلخص في أربع نقاط:

(1) بينه وبين الرسول حوالي 200 سنة وهي مدة طويلة مات خلالها كل الصحابة.

(2) رحلات البخاري إلى بغداد ومكة ومصر كانت قصيرة ولم تكن كافية للسماع من كل الرواة.

(3) معظم أحاديث البخاري تساعيات بينه وبين الرسول تسعة رواة ما يوسع مجال النسيان والتدليس أو الكذب والتلفيق.

(4) أن 16 سنة مدة وَضْعه لكتابه لا تكفي لتنقيح 600 ألف حديث للتحقق من شرطه وهو العدل والصدق وعدم التدليس، وبحسبة بسيطة يحتاج إلى أكثر من 200 سنة لكي ينقح 600 ألف أي 15 دقيقة لكل حديث وهي غير كافية للقاء الرواة وتطبيق المعايير!

ولبيان حجم المغالطة في النقاط الأربع السابقة نقول:

1- طول الفاصل بين البخاري والنبي أو قِصَره ليس معيارًا في الصحة أو الضعف ما دام الاعتماد على آلية الإسناد وعلى معايير علمية للنقد، كما أن البخاري لم يكن أول من جمع الحديث ودوّنه حتى يُطرح مثل هذا الإشكال المُفتَعَل؛ فقد سبقه أئمة أعلام من أبرزهم مَعمر بن راشد (ت153هـ) ومالك بن أنس (ت179هـ)، يضاف إلى ذلك أن آخر الصحابة موتًا كان عامر بن واثلة الكِناني (ت102هـ وقيل 110هـ).

2-  أما بخصوص رحلات البخاري فهو يقول عن نفسه: “دخلت إلى الشام ومصر والجزيرة مرتين، وإلى البصرة أربع مرات، وأقمت بالحجاز ستة أعوام، ولا أُحصي كم دخلت إلى الكوفة وبغداد مع المحدثين”، وكان قد سمع ببُخارى وبَلخ ومَرْو والري وبغداد والبصرة والكوفة ومكة والمدينة ومصر والشام وغيرها من حواضر الإسلام وأطال الرحلة وتوسع، وتقول كتب التراجم: إنه كتبَ عن ألف وثمانين نفسًا.

3- أطول سند في البخاري هو سند تُساعي، وهو حديث “ويل للعرب من شر قد اقترب” الذي أخرجه البخاري في كتاب الفتن وفيه أربع صحابيات، في حين أن البخاري حين يَنزل في الإسناد يَصل إلى سداسي أو سباعي وذلك لمعنى أو فائدة استدعت الإفراد بالبحث والدراسة، وفي بعض الأحيان يكون قد روى الحديثَ نفسه بالإسناد العالي في موضع آخر، ولا أريد أن أفصّل في هذه المسألة التقنية، ولكن حسبي أن أذكر أيضًا أن للبخاري ثلاثيات (بينه وبين النبي ثلاثة رواة فقط) وهي من مزايا صحيحه التي دفعت العلماء إلى العناية بها وممن جمعها أبو الخير محمد بن موسى الصفار (عندي نسخة خطية منه)، وعلي بيومي (عندي نسخة خطية منه)، أي أن في أعلى طبقات شيوخ البخاري مَنْ حَدَّثه عن التابعين.

4- انتخب البخاري صحيحه في 16 عامًا، وقد روى أبو علي الغساني عن البخاري أنه قال: “خرّجت الصحيح من ستمئة ألف حديث”. والحسبة الرياضية التي قام بها الفيديو لا تقوم على أساس علميّ؛ لأنها مبنية على تصورات مغلوطة عن مفهوم الحديث وهو هنا الطريق (الإسناد) وليس المتن، ولذلك كان حفاظ الحديث يَجمعون المتن الواحد من طرق كثيرة لاختباره ونقده ويسمون كل طريق حديثًا، ولا بد من القول: إن هذه الطرق تدور على أسماء شيوخ عددهم محصورٌ لا يصل إلى ذلك الرقم الضخم المُتَوَهَّم والذي تمت قسمته، فعدد رجال البخاري كلهم في الصحيح هو (1525) رجلاً، وقد درَسهم الإمام أبو نصر البخاري الكلاباذي (398هـ) وغيره وأفردوهم بكتب مستقلة.

أكاذيب حول البخاري

ثم إن الحسبة تقوم أيضًا على تصور مغلوط عن منهج وطرائق نقد الأسانيد؛ لأن الخبرة بالحديث والتخصص فيه ومعايشته من شخص متفرغ منذ سِنيه الأولى لا تُحتَسب بهذه الطريقة، فالفيديو أسقط خبرة البخاري ما قبل هذه ال(16) سنة، وقد قال أبو بكر  الأَعْيَن: “كتبنا عن محمد بن إسماعيل وهو أمرد”، وقد بدأ البخاري التصنيف في قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم وهو ابن ثمان عشرة سنة. وتتجاهل تلك الحسبة خبرة شيوخ البخاري ومعاصريه ضمن جماعة المحدّثين (الجماعة العلمية) فالبخاري لم يبدأ من فراغ بل بنى على معارف مَن سبقوه أيضًا، وشارك معاصريه كذلك فقد قال الحافظ أبو جعفر العُقَيلي: “لما ألف البخاري كتاب الصحيح عَرَضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن مَعين وعلي بن المَديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة إلا في أربعة أحاديث. والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة”.

أما بخصوص شرط البخاري فهي مسألة طال فيها كلام العلماء، والشروط التي ذكرها الفيديو هي اختزال مُخلّ لشروط الحديث الصحيح، فقد كان البخاري أشدَّ المحدثين مذهبًا في قبول الحديث، ففي العنعنة مثلاً كان يشترط اللقاء ولو مرةً بين الراويين ولا يكتفي بشرط المعاصرة كالإمام مسلم، وقد استقر لدى العلماء أن شرط الحديث الصحيح أن يكون إسناده متصلاً بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة قادحة، وفي تفاصيل هذه الشروط كلام طويل وتطبيقات مختلفة.

النقطة الثالثة  في الفيديو هي قوله: إن “شخصية البخاري لم تكن – أبدًا – موضع إجماع بين علماء المسلمين؛ فقد جَرَحه عددٌ من أئمة عصره، منهم: أبو حاتم الرازي، وابنه عبد الرحمن، ومحمد بن يحيى الذُّهلي”. وهذا تدليسٌ؛ فالبخاري كان محلَّ قبولِ وثناء عامة الأئمة عبر التاريخ، فقد قال أحمد بن حنبل: “ما أخرجتْ خراسان مثلَ محمد بن إسماعيل البخاري”، وأفاض الحافظ الخطيب البغدادي في بيان مكانة البخاري في حواضر الإسلام: البصريين والحجازيين والكوفيين والبغداديين وأهل الريّ وخراسان، وقال الإمامان النووي والطوفي: “تلقيب البخاري ومسلم بإمامَي المحدّثين هو باعتبار ما كانا عليه من الورع والزهد والجد والاجتهاد في تخريج الصحيح حتى ائتم بهما في التصحيح كلُّ من بعدهما”. وقال الحافظ الترمذي: “لم أرَ بالعراق ولا بخراسان في معنى العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلمَ من محمد بن إسماعيل البخاري”.

أما الأسماء المذكورة في الفيديو وهي ثلاثةٌ (أبو حاتم الرازي وابنه عبد الرحمن الرازي والذهلي) فهي ترجع إلى مسألة محددة ومصدر واحد فقط كما يوضح عبد الرحمن الرازي نفسه بقوله:  “سمع من البخاري أبي [أبو حاتم] وأبو زُرعة ثم تَرَكا حديثَه عندما كَتَب إليهما محمد بن يحيى [الذهلي] النيسابوري أنه أَظهر عندهم أن لَفظَهُ بالقرآن مخلوقٌ”، وقد تعجب العلماء بعد ذلك من هذا الموقف كما فعل الإمام تاج الدين السبكي وغيره، والمسألة ليست شخصَ البخاري ولا صحيحَه وإنما هي مسألة القول بخلق القرآن التي شقت صفوف المحدثين في ذلك الزمان، وأن مصدر التهمة هو الذّهلي نفسه، ولذلك دأب كل من كتب عن البخاري قديمًا وحديثًا على مناقشة هذا الموقف من الذهلي، وهذا شائع في كتب التراجم.

وقد كان الذهليّ نفسه يحث الناس على حضور مجلس البخاري ثم ساءت العلاقة بينهما ووشى الذهلي بالبخاري إلى خالد بن أحمد (أمير بخارى) قائلاً: “إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنَّة”، يقصد القولَ بخلق القرآن، رغم أن البخاري لم يكن يقول بذلك، قال الإمام السبكي: “فافهم ذلك، ودعْ خرافات المؤرخين … ولا يرتاب المنصف في أن محمد بن يحيى الذهلي لَحِقته آفة الحسد التي لم يَسلم منها إلا أهل العصمة”، وقد تتلمذ للبخاري كلٌّ من أبي حاتم وابنه عبد الرحمن قبل أن يستجيبا لطلب الذهلي، واعتمد أبو زرعة الرازي في جَرْحه لبعض الرواة على كلام البخاري نفسه فيهم ونقَل جرحَه لهم.

النقطة الرابعة في الفيديو هي قوله: “هناك علماء آخرون طعنوا في صحيح البخاري، كالدارقطني، والغساني الجَيَّاني والحافظ زين الدين وغيرهم”!

يخلط الفيديو بين شخص البخاري وبين صحيحه، فالرازيان: الأب والابن، والذهلي لم يتكلموا عن صحيح البخاري أصلاً وإنما عن رأيه في مسألة واحدة لا علاقة لها بالحديث، أما الأسماء الثلاثة المذكورة هنا فهي تلبيسٌ من معدّي الفيديو فلا نعرف من هذا “الحافظ زين الدين”، والدارقطني (ت385هـ) والغساني (ت498هـ) لم يَطعنا في صحيح البخاري بل كانت لهما بعض الانتقادات من حيث الصنعة الحديثية، وأضيفُ إليهم أبا مسعود الدمشقي الحافظ (ت401هـ). فالدارقطني نقَد مئتي حديث فقط (من آلاف!) استدرك فيها على البخاري ومسلم أحاديث رأى أنهما أَخَلَّا بشرطهما فيها وأنها نزلت عن دَرَجة ما التزماه في كتاب سماه (الإلزامات والتتبع)، أما أبو مسعود الدمشقي فقد كتب استدراكًا أيضًا، وكتب الغساني كتاب “تقييد المهمل” في نقد (بعض) رواة البخاري، وقد أجابَ الإمام النووي وغيره عن نقد الدارقطني بأن طعن الدارقطني فاسدٌ ومبني على قواعدَ (لبعض) المحدثين هي ضعيفةٌ جدًّا ومخالِفةٌ لِمَا عليه الجمهور من أهل الفقه والأصول ولقواعد الأدلة قائلاً: “فلا تغترَّ بذلك.

وجملةَ الانتقادات التي وُجهت إلى صحيح البخاري هي انتقاداتٌ تِقنيةٌ لا تتناول ما يسعى إليه الناقدون اليوم من رد أحاديث البخاري أو الطعن في صحيحه، وهي ترجع في الجملة إلى الاحتلاف في بعض قواعد النقد بين المحدثين أنفسهم، فبعضهم يُشدد فيها، وبعض يتخفف في كونه شرطًا للحديث الصحيح أو لا، وهي مسائل اجتهادية لا صلة لها بالطعن أو التكذيب.

أما كون صحيح البخاري أصحَّ كتابٍ بعد القرآن (فيما يخص نصوص الشرع) فهو محل اتفاق بين عامة العلماء عبر القرون بعد أن أصبح البخاري محل قَبول منهم على كثرة دراسته والكتابة عنه أو عن جانب منه، وقد أقر بهذا أئمة كالحافظ النسائي وحكى الاتفاقَ عليه أئمة كابن الصلاح والنووي والطوفي وآخرين. وقد رَوَى عن البخاري عددٌ كبير من تلامذته كمسلم وأبي زُرعة الرازي، والترمذي وابن خزيمة وخلق كثير. قال ابن خلدون:  “البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، … أما البخاري – وهو أعلاها رتبة – فاستصعبَ الناسُ شرحَه، … وقد سمعتُ كثيرًا من شيوخنا – رحمهم الله – يقولون: شرح كتاب البخاري دَيْن على الأمة”، أي قبل مجيء الحافظ ابن حجر الذي شرحه شرحًا مستفيضًا سماه “فتح الباري“.

وقد عدَّ حاجي خليفة (82) شرحًا للبخاري، وقال جمال الدين القاسمي: “لم يبقَ فاضل من علماء المذاهب إلا وعُني به ما بين شارحٍ له وقارئ وساعٍ لتَلَقيه وحريصٍ على سماعه ومفتخِرٍ بالإجازة به وبقُرب السند إلى جامعِه، حتى إن أرباب الأَثْبات والمُسَلْسلات نوَّعوا الاتصالَ بجامعه [البخاري] بأسانيدَ غريبة، ما بين شامي وحجازي ومصري وعراقي وهندي ومغربي وروَوْه مُسَلْسَلاً بالشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة”.

المسألة الخامسة قول الفيديو: “البخاري صاحب أحاديث قتل المرتد، وحد الرجم، والماعز التي التهمت آيات فُقدت من القرآن. وحديث أن الرسول حاول الانتحار“. وهذا أيضًا كذبٌ من عدة أوجه

الأول: أنه يحاول أن يُلصق كل الأحاديث المُشكلة بشخص البخاري للتنفير منه والطعن في كتابه، في حين أن البخاري هو أولُ مَن صنَّف في “الصحيح المجرد” عن غيره من أنواع الحديث، لا أول من صنف في الحديث مطلقًا.

الثاني: أن قصة الشاة التي أكلت في بيت عائشة صحيفةً كان مكتوبًا عليها آية من القرآن ليست في البخاري أصلاً، وتَفَرد بها محمد بن إسحاق ولكن البخاري لا يروي عن ابن إسحاق في كتاب الصحيح، وقد روى هذه القصة أحمد وابن ماجه ولا تَثبت؛ لعدة علل إحداها: مخالفتها لرواية الأئمة الثقات فهي شاذة.

الثالث: أن حديث قتل المرتد لم يكن البخاري أولَ من رواه، فقد رواه قبلَه الإمام الشافعي (204هـ) وابنُ أبي شيبة (235هـ) وأحمد بن حنبل (241هـ).

الرابع: أن حديث أن الرسول بعد انقطاع الوحي حاول أن “يَتردى من رؤوس شواهق الجبال” هو من كلام الزهري وليس من كلام عائشة صاحبة الحديث الأصلي، والبخاري عزاه للزهري (من بلاغات الزهري باصطلاحهم) وهو غير صحيح على شرط البخاري، ولذلك قال الشيخ ناصر الدين الألباني: “هذا العزو للبخاري خطأ فاحش، ذلك لأنه يُوهم أن قصة التردي هذه صحيحة على شرط البخاري؛ وليس كذلك”.

والخلاصةُ أن أحاديث البخاري في الصحيح بلغت بالمكرر (سوى المُعلَّقات والمتابَعات) (7397) حديثًا، وقد انتقد العلماء منها (110) أحاديث، منها (32) حديثًا وافق البخاريَّ عليها الإمام مسلمٌ، بينما انفرد البخاري ب (78) حديثًا. قال الحافظ ابن حجر: “وليست عِلَلها كلها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهرٌ، والقدح فيه مندفعٌ، وبعضها الجواب عنه مُحتمِل، واليسيرُ منه في الجواب عنه تَعَسُّفٌ”. وقد ناقشها حديثًا حديثًا في كتاب “هدي الساري”. وقد فهم بعض الحفاظ من هذا عِظَم البخاري؛ إذ إن نسبة ما هو منتقد إلى ما لم يُنتَقَد هي عُشر العشر. أو كما قال القاسمي: ففي كل مئة حديث منها حديثٌ منظورٌ فيه.

وكان الإمام البخاري مجتهدًا مطلقًا في الفقه، ولذلك لا يصح انتسابه إلى أي مذهب فقهي، وقد استُنبط فقهه من عناوين تراجم أبواب كتابه، ومن آرائه الفقهية: أن الجُنُب لا بأس بقراءته للقرآن، وأن الغسل من الجِماع لا يجب إلا عند الإنزال ولكنه أَحوط، وأن فخذ الرجل ليس بعورة، وجواز دخول المشرك المسجد، وجواز الصلاة في الكنيسة التي ليس فيها تماثيل، وجواز إمامة المبتدع للصلاة، وجواز خدمة المرأة الرجال وقيامها عليهم، وغير ذلك.

ولكن هل يعني كل ما سبق أن البخاري معصوم؟ أو أن كل حديث في الصحيح هو صحيح (قطعًا) في نفس الأمر؟ أو أنه يجب العمل بكل حديث في صحيح البخاري؟ الجواب بالتأكيد لا؛ لأن كتب الحديث لا تعدو أن تكون (مجاميع) للأحاديث المسندة والموثوقة على شرط أصحابها، ولكن الذي منح البخاري قيمة أعلى هو تلقي العلماء له وتوافقهم عليه، دون أن يعني ذلك القطع بأن النبي قال هذا بالحرف، ودون أن يعني ذلك أن كل حديث في البخاري يجب العمل فيه؛ لأنه ثمة فارقٌ بين الصحة والعمل، فقد يصح الحديث ولا يكون موضوعًا للعمل، كما أن المذاهب الفقهية كلها تأسست قبل وجود صحيح البخاري، واستقرت بعده من دون أن يكون له إسهامٌ أساسيٌّ في تَشَكلها..