إن الأصل في الإنسان التوحيد، والشرك طارئ عليه، ويستدل عليه من عدة وجوه:

1. إنَّ الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبياً يعبد الله وحده لا يشرك به، وعلم أبناءه التوحيد

حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي هو؟ قال: “نعم، نبي مكلَّم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه”.

ثم وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان، وهذا يقر ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالأديان السماوية الثلاث، الإسلامية والنصرانية واليهودية، إلا من تابع قول الملحدين منهم.

ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لأتباعهم النبوة… فإن آدم أمرهم بما أمره الله به، حيث قال له: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (البقرة: 38- 39)، فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم، قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزَّل.

2. بين الله سبحانه أن البشرية كانت في أول أمرها على التوحيد:

فالبشرية أول أمرها كانت على التوحيد، ولكن طرأ عليها الشرك وتعدُّدت الآلهة لقوله تعالى: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ (البقرة: 213).

اتفق أهل العلم أنَّ المراد بالناس في هذه الآية هم الذين كانوا بين آدم ونوح – عليهما السلام – وكلهم كانوا في تلك الفترة أمة واحدة بنص الآية، وإنما اختلفوا في المبدأ الذي وحَّدهم، وكانوا عليه مجتمعين.

فذهب جمهور أهل العلم إلى أنَّ الناس في تلك الفترة كانوا على دين الحق من شريعة الله، لا يختلفون في ذلك، ثم بعد مرور الزمن حصل بينهم اختلاف في توحيد الله، فبعث الله النبيين لبيان ما اختلفوا فيه، وهو قول ابن عباس وأبيِّ بن كعب واختاره ابن جرير وابن كثير، وعليه الكثير من المحققين من المفسرين[1].

روى الحاكم بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ثم قال الحاكم: “وكذلك في قراءة عبد الله: كان الناس أمة واحدة فاختلفوا”[2].

وهذا القول ثابت ومشهور عن ابن عباس، رواه عنه غير واحد، قال الشوكاني: “أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان الناس أمة واحدة، قال: على الإسلام كلهم”.

قال ابن جرير: فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به، وذلك أنَّ الله عزَّ وجلَّ قال: ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ (يونس: 19)، فتوعَّد جلَّ ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر، ثم كان الاختلاف بعد ذلك لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جلَّ ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد؛ لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحال أن يتوعَّد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.

ويقصد ابن جرير بهذا أنَّ الله تعالى عابهم على اختلافهم بعد الاتفاق الذي كانوا عليه، فدلَّ ذلك أنَّ بعضاً منهم انتقل من حالة كانوا فيها مرضيين إلى حالة صاروا فيها مذمومين، ولا يكون ذلك إلا بانتقال بعضهم من الإيمان إلى الكفر، وهو الذي استدعى إرسال الرسل إليهم، لبيان المحقِّ من المبطِل من الفريقَين.

قال ابن كثير: “والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً ومعنى، لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض”.

ويقول: “ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام

ومن الأدلة على أن الأصل في الإنسان التوحيد: أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أنَّ الفطرة التي فُطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص…

 بعد أن تقرر ذلك وأن فطرة الإنسان هي التوحيد نقول: ثم بدأ الإنسان بالانحراف فتدرج أمره حتى وقع في الشرك، وذلك – أي الأصل المذكور – هو الحق الذي لا ريب فيه، ثم إنَّ هذا القول الموافق للقرآن والسنة والفطرة والعقل الصريح الموافق للنقل الصحيح قد اهتدى إليه بعض علماء الآثار والباحثون في الأديان، من الغربيين وغيرهم نذكر هنا نماذج من أقوالهم:

  1. يقول الباحث (أدميسون هيوبيل) المختص في دراسة الملل البدائية: لقد مضى ذلك العهد الذي كان يتهم الرجل القديم بأنه غير قادر على التفكير فيما يتعلق بالذات المقدس، أو في الله العظيم، ولقد أخطأ (تايلور) حيث جعل التفكير الديني الموحِّد نتيجة للتقدم الحضاري، والسمو المعرفي، وجعل ذلك نتيجة لتطور بدأ من عبادة الأرواح والأشباح، ثم التعدد، ثم أخيراً العثور على فكرة التوحيد.
  2. ويقول الباحث (أندريلانج) من علماء القرن الماضي: إنَّ الناس في استراليا وأفريقيا والهند لم ينشأ اعتقادهم في الله العظيم على أساس من الاعتقاد المسيحي، وقد أكد هذا الرأي العالم الاسترالي (وليم سميث) حيث ذكر في كتابه (أسس فكرة التوحيد) مجموعة من البراهين والأدلة جمعها من عدة مناطق واتجاهات تؤكد أنَّ أول عبادة مارسها الإنسان كانت تجاه الله الواحد العظيم.
  3. يقول الدكتور (حاج أورانج كاي) من علماء الملايو في إندونيسيا: عندنا في بلاد “أرحبيل” الملايو دليل أكيد على أنَّ أهل ديارنا هذه كانوا يعبدون الله الواحد، وذلك قبل أن يدخل الإسلام إلى هذه الديار، وقبل أن تدخل النصرانية، وفي عقيدة جزيرة “كلمنتان” بإندونيسيا لوثة من الهندوسية، ورائحة من الإسلام، مع أنَّ التوحيد كعبادة لأهل هذه الديار كان هو الأصل قبل وصول الهندوسية أو الإسلام إليها، وإذا رجعنا إلى اللغة الدارجة لأهل هذه الديار قبل استخدام اللغة السنسكريتية أو قبل الهجرة الهندوسية أو دخول الإسلام تأكدنا من التصوُّر الاعتقادي لأجدادنا- حسب النطق والتعبيرات الموروثة- هو: أنَّ الله في عقيدتهم واحد لا شريك له.

إنَّ هؤلاء العلماء وغيرهم من أمثال: لانج، وفريزر شميدث، وبتاتزولي، وفوكارت، قد توصلوا من خلال أبحاثهم التي قاموا بها إلى أنَّ الأصل هو التوحيد وليس الشرك، وسموا نظريتهم: (نظرية فطرية التوحيد وأصالته)، وقد انتصر لهذه النظرية، فريق كبير من العلماء وأيدوها بما توصلوا إليه من اكتشافات وحفريات قديمة تدل على أنَّ هناك أمم عريقة لم تكن تعرف تعدد الآلهة، وكانت تؤمن بالإله الواحد، وبنوا عليه أنَّ عقيدة الوحدانية هي أقدم ديانة عرفها البشر، وأنَّ التعدد والوثنية طارئة ومتطفلة على عقيدة التوحيد.

إنَّ الأصل في الإنسان التوحيد، وهذا يدحض افتراءات القائلين، بأن التديُّن من صنع الإنسان، وأول العبادة عند الإنسان كانت الآلهة المتعددة، ثم ترقَّت إلى عبادة إلهين، كإله النور وإله الظلام، وإله الخير وإله الشر، ثم ترقى إلى عبادة إله واحد.

وإنَّ التوحيد هو الأصل ومغروس في الفِطَر، وأيقنت به العقول الرشيدة، وأثبتته التجارب التاريخية الصادقة التي كان زعماؤها سادة البشر من الأنبياء والمرسلين، فالإنسانية -إذن- بدأت بالتوحيد ثم انتهت شيئاً فشيئاً إلى الشرك والتعدُّد، وهذه هي الحقيقة العلمية المؤيدة بالدليل العقلي والنقل والمنطقي والبحث العلمي، وهذه الحقائق الدامغة تقلب نظرية (أوغاسط كونت) رأساً على عقب فقد كان (أوغاسط كونت) يرى أن الإنسانية بدأت بالتعدد والشرك ثم التوحيد خاتمة المطاف فيها، وهذه النظرية لم تقف أمام الأبحاث الحديثة، بحيث انهارت كما انهار غيرها من نظريات هذا المفكر الذي كان يحتلُّ يوماً مكان الصدارة بين المفكرين، والذي أصبحت آراؤه تدرَّس الآن على أنها أثر تاريخيٌّ فحسب.

ومهما يكن من شيء، فإنه حينما انحرفتِ الإنسانية في عقيدتها شاءت رحمة الله أن يرسل نوحاً عليه السلام؛ مبشراً بالحق فيما مجال العقيدة، وبالخير في مجال الأخلاق، وبالعدالة في مجال التشري.


[1] عمر إيمان أبو بكر، قصة نوح عليه السلام، المرجع السابق، ص 12.

[2] المستدرك على الصحيحين، 9/ 25.

المصادر والمراجع:

أبو بكر محمد زكريا، الشرك في القديم والحديث، 1 /200،199،196

عبد الحليم محمود، قصص الأنبياء في رحاب الكون مع الأنبياء والرسل، ص 64.

علي الصلابي، نوح عليه السلام والطوفان العظيم، ص 49-51.

محمد عبد القادر أبو فارس، مع الأنبياء في الدعوة إلى الله، دار المأمون للنشر والتوزيع، عمان. الأردن، 2013، ص 28.