الحمد لله القائل لنبيه { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة: 185] والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي أوصانا بقراءة القرآن والتدبر فقال: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه »[1] ورضي الله عن صحابته وآل بيته والتابعين، وبعد

فإن القرآن الكريم هو المصدر الأول للعقيدة والتشريع والمعرفة، ومصادر التشريع الأخرى وعلى رأسها السنة النبوية قائمة عليه، فالقرآن الكريم هو الذي أعطى السنة هذه المنزلة، وقد كان من أبرز المقاصد التي جاء بها القرآن هو صلاح حال الإنسان في الدنيا والآخرة، وهذا لا يتأتى إلا من خلال العمل بما جاء به القرآن والعمل يستلزم التَّدبر للقرآن، وتثبيت القراءة والعمل يتطلب التلاوة المستمرة ليستقرَّ العمل بمضامين القرآن الكريم، فكأنَّ التلاوة هي البريد للتدبر والعمل.

{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} من هذا المنطق نريد التعرُّف على المقصود بهذه المصطلحات الواردة في القرآن الكريم (القراءة، التلاوة، التَّدبر،) وخاصة نحن في هذا الشهر الفضيل شهر القرآن الكريم: نزولًا وتدبُّرًا وعملًا.

 مع ملاحظة أنَّ كلمة المصطلح ليست مقصودة بالمعنى العلمي الدقيق، فهو نوع من التوسع في العبارة؛ إذ هذه الثلاثية – فيما نحسب- دائرة بين المصطلح والمفهوم، أو على الأقل قد يقترب بعضها من المصطلح، وبعضها من المفهوم، وليس خافيا أنَّ دائرة المفهوم هي أو سع من دائرة المصطلح؛ ولهذا يتطلب المفهوم تواضعا على المراد من اللفظة، أما المصطلح فلا يسمى مصطلحا مالم يكن هناك تواضع مسبق على المراد منه.

  أولا: التَّدبُّر

ورد التدبر في أكثر من آية، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى عن أهمية التدبر في آية جامعة {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} [ص: 29] وقوله سبحانه {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]

ما هي حقيقة التدبر ؟

التدبر في اللغة  هو التفكر والتأمل والفهم الذي يبلغ به صاحبه معرفة المراد من المعاني، والتدبر مأخوذ من فعل دبر ، ومن معاني التدبير في اللغة أنه يأتي بمعنى النظر إلى عاقبة الشيء وآخرته  [2]، أي إلى الغاية، والتدبر يقودنا إلى معنى التأمل في الشيء، فالتأمل هو الإمعان في الشيء والتأمل فيه وتدبره” حقَّ التدبُّر” ومن الملاحظ في اللغة أنَّ التدبر يقتضي التكرار الذهني ومن أجل هذا تجد معنى التدبر مماثل لمعنى تعقُّب الشيء فيقال” تعقبت الأمر إذا تدبرته، والتعقُّب: التدبر والنظر ثانية”
 ومنه العقبى وهي خاتمة الشيء وجزاؤه [3] ، وخلاصة هذا أن التدبر هو ” النظر في عاقبة الأمر …  ويقال عرف الأمر تدبرا، أي بأخرة. قال جرير يذم خصومه:
ولا تتقون الشر حتى يصيبكم    ولا تعرفون الأمر إلا تدبرا
أي ينبغي على الذكي الفطن أنْ يعرف العواقب قبل وقوعها، وقال أكثم بن صيفي لبنيه: يا بني، لا تتدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها[4].

والتدبر في الاصطلاح  مبني على التدبر اللغوي فالجرجاني يعرفه بقوله هو “عبارة عن النظر في عواقب الأمور، وهو قريب من التفكر؛ إلا أن التفكر تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواقب “[5] أي أن التفكير يقود إلى التدبر فيكون التدبر هو العاقبة والخاتمة لما يريده النصُّ القرآني منا، وعلى هذا لا يكون هناك تدبر مالم يكن هناك تفكُّر وترداد للأمر ، فالتدبر يستلزم التفكير ، ومعرفة عواقب الأمر ، ومن أجل هذا نجد التدبير صفة فعلية من صفات الله تعالى وهي ترجع إلى صفة العلم الذاتية، يقول سبحانه وتعالى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} [يونس: 3] أي لا يكون الأمر عشوائيا، ولذا فالغنى والفقر والصحة والسقم من التدبير، ومنه قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، والذي يريد أن ينصِّب نفسه مكان الله تعالى هو يسعى بهذا التفكير إلى إفساد الكون  {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]

وإذا كان التدبر يقتضي التكرار الذهني وتعقُّب الشيء للوصول إلى عاقبته ونهايته، فيكون التدبر بهذا المعنى بعد التلاوة والقراءة من حيث الزمن، ويكون هو المقصود من حيث الغاية، فالتلاوة والقراءة موصلة إليه، ويمثل التدبر أعظم المقاصد التي نزل القرآن لأجلها فالقراءة من غير تدبر لا تؤتي أكلها، والتدُّبر هو الدافع الحقيقي للعمل والتعليم والتبليغ، والتدبر الحقيقي يجعل المرء مذعنا وقابلا لكل آيات القرآن الكريم.

شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن

وإذا كانت التلاوة والقراءة هي البريد للتدبر فإن التدبر هو الأصل في تثبيت المحفوظ، وهي الأصل في العمل، وعلى هذا هناك نوع من تبادل الأدوار بين القراءة والتدبر، فالقراءة والتلاوة موصلة إلى التدبر، والتدبر يثبت الحفظ في القلب.  ولعل هذا هو منهج الصحابة رضي الله عنهم في الحفظ فالتدبر والعمل أولا، وهنا أريد أن أنوه إلى قضية المدارس والمعاهد التي تنشط بكثر في تحفيظ القرآن، فهو عمل خير وطيب ويُؤجر القائمون عليها، ولكن  حبذا لو تم إدخال بعض المفردات التي تعين على الفهم لترسيخ المحفوظ وللعمل له، ومنهج الصحابة كان العمل بالمقروء،  وأكثر عيب وجهه القرآن الكريم هو الإدبار عن التدبر في حق أولئك الذين يقرؤون ولا يفهمون؛ إذ هذا التوجه قد يكون سيفا مسلطا على رقاب الأمة في بعض الأوقات، فقد جاء في الصحيح في وصف أتباع ذي  الخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ”  يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّة [6]

ثانيا: القراءة

وردت القراءة في القرآن كثيرا ومن ذلك قوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) } [النحل: 98، 99] { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} [الشعراء: 198، 199]

ما علاقة التدبر بالقراءة؟

عندما نأتي إلى الفعل قرأ الذي هو أول فعل في القرآن الكريم  في قوله تعالى {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) نجد أنه بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام جاء بمعنى التّدبر والحث عليه وليس القراءة اللسانية، فالنبي كان أمنيا بشهادة القرآن الكريم، فالقراءة من النبي قرآءة تكليفية بمعنى التدبر، وقراءة تكوينية بمعنى عدم الوقوف على متطلبات التدبر وهي القدرة على القراءة، فالنبي كان أميا بشهادة القرآن، وهي ليست قراءة سطور، فلم يقل الله تعالى لنبيه اتلو هذه الآية بل قال اقرأ ، لأن التلاوة لا تستلزم الفهم، والخطاب للأمي بالأمر بالقراءة هو خطاب تكويني، وأيضا الرسالة بحد ذاتها فيها معنى التكوين لما تستلزمه من العصمة.

والذي تحصَّل مما كُتب حول هذه المسألة أن القراءة لا تستلزم معرفة الخط، ومن هنا نحن نقول كيف تقرأ هذا الحديث؟ أي كيف تتصوره وماهي مدلولاته؟، وبذلك لا حاجة إلى الاستشكال الذي يستشكله البعض عندما يقول كيف يخاطب الله تعالى محمدا بالقراءة ” اقرأ ” وهو أمي بنص قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)} [العنكبوت: 48] ولماذا قال هنا ولا تخطه بيمينك لأن التلاوة لا تستلزم معرفة الخط، فقد يكون الإنسان تاليا وهو يحفظ عن ظهر قلب من غير معرفة بالخط ، ولو جاءت الآية القرآنية {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} فقط لربما قيل إنَّ الآية ليست نصا في نفي كتابة النبي ولهذا قال سبحانه ولا تخطه بيمنك، فهو تأكيد على معنى الأمية للنبي عليه الصلاة والسلام ، وأمية النبي تشريف بخلاف أمية غيره.

وقد ظهر أن مادة قرأ هي بمثابة المشترك اللفظي الذي يدل على ثلاثة معانٍ:

المعنى الأول: بمعنى التلاوة ولو لم يكن فيها فهم من جهة القارئ أو من جهة المستمع، فالطفل قد يقرأ شيئا لا يفهمه وقد تقرأ كلاما أعجميا من غير فهمه، ومن جهة السامع قد لا يفهم السامع المقروء، ولأجل هذا كانت الكتب المنزلة على الرسل من لغة القوم {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)} [الشعراء: 198، 199] 

المعنى الثاني: تكون القراءة بمعنى الفهم لأن أصل القراءة” حِفْظ المقروء أو استيعابه في القَلْب، أو في الباطن، ولذلك يُقال  “تَقَرَّأَ الرجل: تَفَقَّه. وقرأتُ تَفَقَّهْتُ ” (الفقه استيعاب المعنى في القلب)

المعنى الثالث: بمعنى الحفظ فقد ورد في البخاري [6/ 193 باب تعليم الصبيان القرآن] قال ابن عباس توفي رسول الله – – وأنا ابن عشر سنين وقد قَرَأْت المحكم (يعني المفصّل أي قصار السور) المراد -والله أعلم- أنه حَفِظَها، وقد جاء في رواية أخرى “جَمَعْت المحكم “فهذا يدل على أن المراد بالقراءة الحفظ وأنها بهذا المعنى تُعَدُّ جمعًا في الذهن أو القلب، وهذا يؤيد الأصل الذي رأيناه. قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} والمعنى والله أعلم سَنُحفظك أو سنجمعه في صدرك، وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] يمكن أن تعني جَمْعه أي – حفظه من الضياع، وقرآنه أي إيعاءه صدرك، إذ الجمع في الفؤاد ليس من معاني جمع بل من معاني قرأ في اللغة العربية [7].

ثالثا: التلاوة

وردت التلاوة في أكثر من آية من آيات القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) } [الكهف: 27] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)} [الشعراء: 69، 70]

أولا .لا يلزم منها الفهم : فإذا كان المعنى الأصلي الدقيق للقراءة هو وعي المادّة المقروءة وفهمها في القلب إما سماعا من الآخرين من غير وجود كتاب أو من خلال القراءة في كتاب[8] فإن الفهم ليس من لوازم ذلك التلاوة لا من جهة القارئ ولا من جهة السامع

ثانيًا. التلاوة لابد فيها من الصوت: لابد من وجود صوت في التلاوة، وأما القراءة فتستعمل” من مكتوب ومن غير مكتوب، بصوت وبغير صوت، فإذا عُدّيا بـ (علي) فهما بصوت ولا بد”، يعني إذا قلت تلا علي أو قرا علي فلابد من وجود صوت

ثالثًا. الأصل في التلاوة هو القراءة من مكتوب وقد يُتسامح فيها فتكون قراءة من حفظ [9].

رابعا. التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعدا

التلاوة لا تكون إلا لكلمتين فصاعدا، والقراءة تكون للكلمة الواحدة يقال قرأ فلان اسمه ولا يقال تلا اسمه ،فالتلاوة لا تكون لكمة واحدة لأنها مأخوذة من التلو وهو الاتباع [10].