لا تنبع أهمية شهر رمضان الكريم من أنه موسم للطاعات والتقرب إلى الله تعالى ومضاعفة الأجر والثواب، فحسب؛ وإنما تنبع أيضًا من أنه يمثل نموذجا نستضيء به طوال العام، ونتمثّله فيما ينبغي أن يكون عليه حالنا من فعل الطاعات واجتناب المعاصي، ومن السمو الروحي والرقي الخلقي والأثر الطيب في فعل الخيرات.
إن رمضان شهر يتعدَّى نَفْعُه زَمَنَه المحصورَ في ثلاثين يومًا، إلى بقية العام؛ بحيث إنه ليس مجرد شهر للتعبّد والتزكّي، وإنما هو أيضًا شهر للتدريب والتهذيب، وشهر للتعليم والترقي. فالمسلم طوال العام يتطلع لهذا “الشهر النموذج”؛ يرنو إليه ببصره، ويتعلق به بقلبه، ويحاول أن يقتبس من نوره، وأن يمد زمنَه المبارك ليظلل سائر أيام العام؛ فكأنّ العام كله رمضان..!!
بهذا المعنى ينبغي أن نتعامل مع شهر رمضان الكريم، وأن نعيد تموضعه في حياتنا؛ حتى إذا مضى رمضان، كان لنا منه نورٌ ممتد، وشعاع مستمر، وأثر مبارك. فرمضان إذا انقضى، من حيث هو زمن محدود بثلاثين يومًا؛ فإنه لا ينقضي، من حيث هو روح وريحان، وطاعة وإيمان!
ويتضح لنا هذا المعنى أكثر إذا نحن تأملنا ما ورد في هذا الشهر الكريم من فضائل، ومن وصفٍ لحال النبي ﷺ فيه.
الجود الرمضاني
جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ؛ فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
فهنا، نرى أن النبي ﷺ تفيض يداه بالجود طوال العام، ويبذل الخير للناس باستمرار، ثم هو في شهر رمضان يضاعف هذا الجود ويكثر من ذلك الخير.. وهكذا ينبغي أن نكون!
فشهر رمضان يمثل مائدة كبيرة متنوعة الأصناف من فعل الخيرات.. من الصدقة، ومن زكاة الفطر.. ومن إطعام الطعام، وتفطير الصائم.. ومن تفقد الفقراء والمساكين.. ثم نستمر، بعد رمضان، في هذه الأفعال الطيبة التي تدربنا عليها في الشهر الكريم، حتى ولو بدرجة أقل. المهم ألا ينقطع الخير الذي تعلمناه من رمضان وتدربنا عليه فيه.
التراويح والقيام
والحال كذلك مع الصلاة؛ ففي رمضان نصلي التراويح؛ التي هي تكون في ليالي رمضان خاصة. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. قَال الْخَطِيبُ الشِّرْبِينِيُّ وَغَيْرُهُ: اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ صَلاَةَ التَّرَاوِيحِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ (الموسوعة الفقهية، 27/ 137).
وصلاة التراويح في رمضان تدريب للمسلم على فضيلة قيام الليل، الذي هو أمر مشروع سائر العام. فمن اليسير، بفضل الله، على من واظب على تراويح رمضان، أن يقوم الليل بعد رمضان..
وقد ندبنا النبي ﷺ إلى قيام الليل، ولو بعشر آيات؛ ففي سنن أبي داود من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِينَ” (صححه الألباني).
الامتناع وضبط النفس
الصيام امتناع عن شهوتي البطن والفرج، وامتناع عن فاحش القول وبذيء الكلام، وعن الوقوع في أعراض الناس والنيل منهم؛ فهو امتناع عما أباحه الله لتتهذب النفس به وتبتعد عما حرم الله. ولا يستقيم الصيام إلا بهذين النوعين من الامتناع.
عن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَصْخَبْ؛ فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ” (متفقٌ عَلَيْهِ).
وعنه، قَالَ: قَالَ النبيُّ ﷺ: “مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ” (البخاري).
فهذا مجال آخر نتدرب عليه في رمضان؛ وهو مجال الارتقاء بالسلوك؛ قولاً وفعلاً. فلا نقول إلا طيبًا، ولا نقابل السيئة بالسيئة. إنه انضباط اللسان والجوارح، مما نحن بحاجة إليه طوال العام، ونتدرب عليه بصورة مكثفة في أيام رمضان الثلاثين.
صحبة القرآن قراءة وتدبرًا
رمضان هو شهر القرآن الكريم ؛ تشرَّف بنزوله، وفيه تُستحب قراءته وتدبره. وفي الحديث الذي سبق ذكره: “وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ”.
فرمضان هو شهر القرآن؛ قراءةً وتدبرًا وعملاً ودعوةً إليه. إنه شهرٌ عُرِفَ بالقرآن وعُرِّفَ به؛ قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185).
فهذا الاهتمام الرمضاني بالقرآن، إنما هو تدريب على صحبة الكتاب العزيز بقية العام، وتعليمٌ بكيفية إدامة قراءته وتدبره والأنس به. وإلا وقعنا في “الهجر”؛ ولا يليق بالمسلم أن يهجر كتابه الذي جُعل هداية له في الدنيا ونجاة في الآخرة.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30): “وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يُصغُون لِلْقُرْآنِ وَلَا يَسْمَعُونَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (فُصِّلَتْ: 26). وَكَانُوا إِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالْكَلَامَ فِي غَيْرِهِ، حَتَّى لَا يَسْمَعُوهُ؛ فَهَذَا مِنْ هُجْرَانِهِ. وَتَرْكُ عِلْمِهِ وَحِفْظِهِ أَيْضًا، مِنْ هُجْرَانِهِ. وَتَرْكُ الْإِيمَانِ بِهِ وَتَصْدِيقِهِ، مِنْ هُجْرَانِهِ. وَتَرْكُ تَدَبُّرِهِ وَتَفْهُّمِهِ، مِنْ هُجْرَانِهِ. وَتَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ زَوَاجِرِهِ، مِنْ هُجْرَانِهِ” (6/ 108).
إذن، شهر رمضان شهر تدريب وتعليم لنا، على ما ينبعي أن نتخذه سلوكًا في حياتنا، قولاً وفعلاً، إتيانًا وتَرْكًا؛ بحيث يكون هذا الشهر الكريم نورًا نستضيء به بقية العام، وشفيعًا لنا يوم الدين.. اللهم آمين..