ما إن يأتي شهر شعبان حتى تظل الأمة الإسلامية ترتقب إطلالة شهر رمضان المبارك، هذا الشهر العظيم بما فيه من مواسم الخير وألوان العبادات، وما إن تقترب نهاية شهر شعبان حتى يستعد المسلمون لرؤية هلال هذا الشهر الكريم، ويأخذ الناس يعملون على قضاء حوائجهم التي يحتاجون إليها في هذا الشهر؛ كي يتفرغوا للعبادة والطاعة التي دعانا إليها الله -سبحانه وتعالى- وجعلها الغاية من خلقنا قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذرايات: 56).
وما يقوم به المسلمون من ألوان الطاعات في شهري رجب وشعبان إنما هو تهيئة وتدريب لأنفسهم، وتعويدها على الطاعة والعبادة وفعل الخير، وأيضا هو طريق إلى هذا الشهر العظيم. لقد أمرنا الرسول -ﷺ- بأن نكثر من الدعاء في رجب العظيم، والفوز الكبير لمن بلغ رمضان وصامه إيمانا واحتسابا، فإن الله -سبحانه وتعالى- بمنه وكرمه ورحمته لعباده يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر.
فعلى المسلمين والمسلمات أن يشمروا عن ساعد الجد ويغتنموا فرصة هذا الشهر بألا تفوتهم ما فيه من خيرات كثيرة وعبادات عظيمة، وعد الله الفاعلين لهذه الخيرات والمتعبدين بهذه العبادات الثواب الكثير والجزاء العظيم لمن صام رمضان وأقامه بشتى أنواع الخير. فهنيئا لكم أيها الإخوة المسلمون بمقدم هذا الشهر العظيم، ووفقني الله وإياكم لصيام نهاره وقيام ليلة، وغفر الله لنا ولكم، وجعله شهر نصر على الأنفس والأعداء المتربصين بنا، وجعل كيدهم في نحورهم، إنه بالإجابة جدير وإنه نعم المولى ونعم النصير.
وعلينا إخوة الإيمان أن نبتعد عن الترف والإسراف في هذا الشهر الكريم؛ حتى يتحقق المعنى الرفيع من الصوم، وهو شعور الغني بالفقير حين يحس بالجوع والعطش، وحتى يكون شهر رمضان شهر اقتصاد وقناعة ورضا بما قسم الله لعباده من رزق وعافية.
إن ما نشاهده ونعيشه من ترف وبذخ في المأكل والملبس وما يتبع ذلك من تعدد في الموائد والسهريات التي يسمونها بسهريات وموائد رمضان، فإنما هو مخالف لشرع الله وليست له صلة بتعاليم الإسلام السمحة التي تدعو كلها إلى الفضيلة وإلى اجتناب الرذيلة. حفظنا الله وإياكم، ووفقني وإياكم إلى الالتزام بالفضيلة.
فضل شهر رمضان
خلق الله الخلق وتكفل لهم بالرزق وإسباغ النعم عليهم، وبعث لهم رسلاً مبشرين ومنذرين، وأنزل لهم كتابا فيه هدايتهم، وشرع لهم فيه عبادات وشعائر جعلها سبحانه هي الغاية من خلقهم. وقد فضل هذه العبادات والشعائر بعضها على بعض؛ فبعضها واجب، وبعضها مسنون، وبعضها مندوب.
وجرى هذه التفضيل أيضا في الأمكنة كما هو بالمسجد الحرام بمكة على غيره من المساجد، والأزمنة كما هو في شهر رمضان على غيره من الشهور، وهو ما نريد الحديث عنه، فنقول وبالله التوفيق: اختص هذا الشهر الكريم بمزايا ونعم من الله مَنَّ بها على عباده في هذا الشهر العظيم؛ فمنها ما ورد في صحيح البخاري من أن النبي -ﷺ- قال: “الصيام جنة، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل. وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم. والذي نفسي بيده، لخلوف -أي تغير رائحة فم الصائم- أطيب عند الله تعالى من ريح المسك. ثم قال الله عز وجل : “يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به” (رواه البخاري).
كما ورد في صحيح البخاري عن الرسول ﷺ: “إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة لا يدخل منه أحد غيرهم. (رواه البخاري) وفيه أيضا: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” (متفق عليه). وبلوغ المسلم صيام شهر رمضان نعمة عظيمة ومنة جسيمة على من وفقه الله لصيامه وقيامه.
وكان النبي ﷺ يبشر أصحابه بقدوم رمضان؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان النبي -ﷺ- يقول: ” أتاكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، فرض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة ، و تغلق فيه أبواب الجحيم ، وتغل فيه مردة الشياطين ، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم” (أخرجه النسائي انظر صحيح الجامع)
فشهر هذا شأنه وفضله عليكم -إخواني المسلمين- اغتنام هذه الفرصة العظيمة التي أنعم الله بها عليكم؛ فهو شهر البركات والخيرات، شهر الإفاضات والنفحات، شهر إقالة العثراث، فيه تضاعف الحسنات؛ فالحسنة بألف حسنة فيما سواه، والفريضة فيه تعدل سبعين فريضة لمن تقبل منه مولاه، وفيه تجاب الدعوات، وفيه تعتق الرقاب من النار، وتصفد فيه الشياطين، فعليكم أن تكثروا فيه من التوبة والإنابة إلى الله -سبحانه وتعالى- وأن تبذلوا ما في وسعكم من الأعمال الطيبة، وأروا الله الخير من أنفسكم فيه؛ فإن الله ينظر إلى جدكم وتنافسكم في هذا الشهر المبارك، فزينوا بأنواع الطاعات أعضاءكم وجوارحكم وأحسنوا سيرتكم يتولاكم في الآخرة بفيضه ومنته، قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف: 56).
فعلى هذا فضل صيام شهر رمضان عظيم وثوابه جسيم، جاءت بذلك أخبار كثيرة صحاح وحسان؛ فمن مزية الصوم وفضله أن الله أضافه لنفسه؛ لأن الصوم لا يتعبد به لغير الله.. قال -ﷺ- مخبرا عن ربه يقول تعالى: “كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به” (صحيح البخاري). وإنما خص الصوم سبحانه -وإن كانت العبادات كلها له- لأمرين بَايَنَ الصوم بهما سائر العبادات..
أحدهما: أن الصوم يمنع من ملاذ النفس وشهواتها ما لا يمنع منه سائر العبادات.
الثاني: أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له، فلذلك صار مختصا به سبحانه، وما سواه من العبادات ظاهر، ربما فعله العبد تصنعا ورياءً، فلهذا صار الصوم أخص به -سبحانه وتعالى- من غيره من العبادات.
وكان رسول الله ﷺ يرغب في قيام رمضان ، من غير أن يأمرهم بعزيمة ويقول : ( من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) (حديث صحيح رواه الترمذي).
إنه شهر تنتشر فيه الملائكة، تبشر عباد الرحمن الذين يقبلون على بيوت الله خاشعين مخلصين صائمين قائمين، نعم تبشرهم الملائكة بمغفرة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، وهم الذين مدحهم الله في كتابه الكريم {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} (الفرقان: 63).
إنه شهر فيه أنزل القرآن الكريم هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وفيه ليلةٌ العبادةُ فيها خير من ألف شهر، فلشهر رمضان فضائل لا تحصى وكرامات لا تستقصى، جعلنا الله ممن أحسن صيامه وقيامه. هذا هو الصيام، وهذا هو القرآن الكريم اللذان يشفعان لصاحبهما يوم القيامة، كما جاء في حديث عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال : ” الصيام والقرآن يشفعان للعبد ، يقول الصيام : أي رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه ، فيشفعان ” . (رواه البيهقي في شعب الإيمان) .
علي مفتاح