حضرة النبي الكريم ﷺ يفكر ويخطط لأمر عظيم طال انتظاره وهو فتح مكة .. ولهذا تكتم على الأمر وضرب على الأمر سرية تامة ، وأخفاه حتى عن أقرب الناس إليه وهو أبوبكر الصديق وزوجته عائشة رضي الله عنهما .. ورغم أنه ﷺ لم يقم بإخبار أحد عن نيته بقصد منع انتقال الخبر إلى قريش ، إلا أن واحداً من الصحابة وهو حاطب بن أبي بلتعة من بعد أن أخبر حضرة الرسول الكريم ﷺ أصحابه بالأمر ، بعث كتاباً إلى قريش يريد أن يخبرهم باستعداده ﷺ لغزو مكة.
عرف النبي ﷺ بالموضوع عن طريق الوحي، فبعث الزبير وعلياً والمقداد ليلحقوا بامرأة تولت حمل رسالة حاطب إلى قريش، فأمسكوا بها وأرجعوها إلى المدينة، ثم جيء بحاطب الذي أدرك أنه هالك لكنه أعلنها بصراحة تامة أنه لم يقم بذلك ارتداداً عن دينه ولا حباً في قريش، وإنما خشية أن تنقلب الموازين وينتصر المشركون، فيقوم المسلمون الأقوياء بحماية عائلاتهم في مكة، وهو لا ظهر له ولا قوة يحمي بها أهله، فأراد أن يكون ذلك نوعاً من الجميل يحفظه له قريش إذا ما وقع ذاك السيناريو السيء.
النبي بكرمه ورحمته بأصحابه قال لأصحابه وهم يشهدون اعتراف حاطب: «أما إنَّه قد صدقكم ». لكن هذا لم يعجب عمر فاستأذن أن يضرب عنقه لأنه خان الله ورسوله، فما كان من النبي الرحيم ﷺ إلا أن قال له :” إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعلّ الله اطّلع على من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم”
العمل الذي قام به حاطب بحسب مفاهيم هذا العصر هو خيانة عسكرية، وهي جريمة لا أحد يتفق معها أو يطالب بتخفيف عقوبتها وهي الإعدام، خاصة أن الخيانة وقعت وقت حرب وليس وقت سلم حتى يتم النظر في تخفيف العقوبة. لكن الرسول ﷺ أراد بقولته تلك أن يعلم الأمة أمراً مهماً هو عدم تضييق النظرة للأمور والتركيز على الجزء ونسيان الكل ، وإنما الأصل أن يتم النظر إلى الأمور بشكل عام ومن كافة الجوانب.
حاطب شهد بدراً وهي معركة ليست كأي معركة، ومن ثبت يومها ، كان دليل صدق مع الله ولم ليكن ليثبت غير الصادقين الراغبين فيما عند الله، وبهم أعز الله الإسلام وشتت الكفر وفرق بين الحق والباطل، ولهذا استحقوا تلك الدرجة العالية.. ولولا ذاك العمل العظيم والجميل لحاطب، ما كان يسلم من سيف عمر، وما كان النبي ﷺ ليعارض عمر في رأيه السديد ذلك.. ولكن هكذا صنائع المعروف تقي مصارع السوء.