تمتع بعض الصحابة رضوان الله عليهم بحس الدعابة، ولم تخل حياتهم من انبساط يقتضيه الطبع الإنساني. بل ثبت أن النبي ﷺ داعب الصغير ومازح العجوز ولم يقل إلا حقا، وجعل من التبسم صدقة توضح شعورك المبهم تجاه أخيك !
ترتب عن هذه التوسعة المعنوية، ورفع الحرج عن أشكال التعبير الإنساني اهتمامُ بعض العلماء والأدباء بتوثيق الدعابات والطرائف، وجمع مادتها في تصانيف حفظتها المكتبة الإسلامية. أما الهدف من وراء ذلك فإطلاق النفس التي تمل من الجد، لأن سماع النوادر والحكايات يشحذ الذهن، ويُنبه الفهم كما يقول ابن الجوزي في تصديره لكتاب “أخبار الظراف والمُتماجِنين.
تهيأت إذن مادة خصبة استعان بها الخطباء والدعاة في فواصل دروسهم ومواعظهم، لتلطيف الجو، وإشاعة السرور الذي ليس منه بد. وكان المبرر دائما أن في هذه التصانيف ما يغني عن الأحاديث التافهة، وأن استحضارها لا يخلو من مسائل أدبية وفوائد علمية، قد لا يجدها السامع في كتب العلم الرصينة. ثم اتسع الأمر ليشمل تعليقات ساخرة على أحداث اجتماعية وسياسية، بل حتى على السائل والمستفتي حين تعوزه النباهة والفطنة.
وأمام الاتساع الهائل لشبكات التواصل الاجتماعي، وبروز الحاجة إلى خطاب دعوي منسجم مع اهتمامات وتطلعات الشباب، ظهرت موجة من الدعاة المهتمين تحديدا بأساليب التشويق والجذب، ومخاطبة الهموم والانشغالات اليومية بما يحقق التدين السليم، وتنقية الأفهام والسلوكيات مما لحقها من شوائب العادات الخاطئة، والشبهات المسيئة للكتاب والسنة.
إن من مقومات الخطاب الدعوي وأصوله، أن يحرص الداعية على تأليف القلوب، وجذب النفوس بالتيسير والتبشير، لمواجهة فرية التطرف والإرهاب التي يتم إلصاقها عنوة بالإسلام، والحد من صور الانفلات التي تقرن الحرية بالقطع مع الموروث، دون تمييز بين عادة خاطئة، وأركان شريعة سمحة.
تطلب الأمر إذن مراجعة لمفردات الخطاب وأدواته، وإعادة تأثيث “الاستوديو” بما يتناسب مع تأنق دعوي لا حدود للإبداع في قوالبه ومؤثراته. وانتهج أغلب الدعاة لغة وسيطة تُقرب السامع من المعرفة الدينية دون عناء، وتستمد من البيئة المحلية وسائل التوضيح والتقريب للمسائل والقضايا الهامة، بما فيها الأخبار والأمثال، وحصاد التنكيت والسخرية.
وبمناسبة السخرية، فإن استحضارها في الغالب اتسم بنوع من الاحتجاج على واقع مر أو وقائع مريرة، وعّبر من خلالها الداعية عن تجاوبه مع هموم الناس، ورصده لما يستجد في حياتهم من متغيرات، تُلحق الضرر بمنظومة القيم أو تهدد التماسك الداخلي. هكذا شكلت السخرية إلى حد كبير سلاحا يقاوم صيغ الانحلال والهبوط، ويعزز الممانعة والتمسك بالدين والأخلاق. وكان حضورها لدى بعض الدعاة سمة لازمت دروسهم ومجالسهم، بل لم تفارقهم حتى وهم في غرف التحقيق يتعرضون للمساءلة!
يحكي الشيخ عبد الحميد كشك في مذكراته، يوم كان نزيلا في سجن طرة، كيف استفزه المحقق حين وجه إليه سؤالا مفاده: لماذا تهاجم-الممثلة- نيللي؟ يقول الشيخ: وكأن نيللي هذه قد أصبحت ذاتها مصونة لا تمس، ومن أرادها بسوء قصمه الله. وكأنها كنانة الله في أرضه أو مبعوثة العناية الإلهية، وشمس الهداية الربانية، السيدة المصونة، والجوهرة المكنونة !
قلت: إنما كنت أطالب بتأخير فوازيرها حتى نصلي القيام، فقد صرفت الناس عن صلاة القيام في رمضان، ثم قلت: لقد صارت كالهلال، نصوم لفوازيرها ونفطر لفوازيرها !
شكّل الشيخ كشك علامة فارقة في ساحة الدعوة لتمكنه من الجمع بين ما يقتضيه الخطاب من تمكن علمي ومراعاة لأحوال المخاطَبين. ولا يخفي عدد من الدعاة تأثرهم بأسلوبه، وحضوره الطاغي، و قفشاته التي تخفف من صرامة الخطبة. لكن المسار الذي يتخذه بعضهم اليوم يثير التساؤل حول الهدف من التوظيف المبالغ فيه أحيانا للسخرية والنقد اللاذع.
أتاحت أدوات الإعلام الجديد حرية غير مسبوقة في الإنتاج والنشر، وألغت على نحو مثير كل مسافة سابقة بين المحلية والعالمية. هكذا صار بإمكان مقطع فيديو أن يحظى بانتشار واسع، ويتابعه الملايين في زمن قياسي، وأن يصير الفرد العادي نجما من المشاهير بضغطة زر.
هذا الوضع الذي أتاح لأي خطاب أن يخترق الحدود المصطنعة، حقق للدعاة الشباب إقبالا متزايدا، وشجع على مشاركة ما كان حتى الأمس القريب حياة خاصة، فصار بإمكان قائمة المعجبين بالداعية الفلاني أن يتعرفوا على أسرته الصغيرة، ويطلعوا على تفاصيل من حياته اليومية واهتماماته، ويُبدوا إعجابهم بكل حركة أو سكنة، بغض النظر عما وراءها من أثر أو قيمة.
هذا النمط الذي يمكن أن ننعته بالمريد “الرقمي” حمل بعض الدعاة على التوسع في تلقائية التعبير والممازحة، والانبساط الذي يعزز رصيد المتابعين. فأصبحت المشاكل والتساؤلات والانشغالات مادة للسخرية، خاصة تلك التي تتناول العلاقة الزوجية وتربية الأولاد، أو حتى سؤالا مؤرقا عجز السائل عن طرحه بصيغة مقبولة. والأمثلة في هذا الباب عديدة، منها ما أورده داعية شاب مغربي حين أغضبه سوء تفاهم مع امرأة فنعتها على صفحته ب “حمالة الحطب”!
حين تصبح السخرية لصيقة بشخص الداعية ومجالسه، ينفتح المجال أمام بعض هواة الصيد في المياه الآسنة، فتتوالى اللقاءات الإعلامية، والدعوات التي لا طائل تحتها سوى تلقف ما أمكن من الردود المتسرعة، أو زلات اللسان التي تخلق الحدث الإعلامي. وبدل أن يتفرغ الداعية لنشر وعي ديني سليم، يجد نفسه داخل دوامة من الردود والتبريرات والعراك مع طواحين هواء لا تكف عن الدوران !
لا يتوجب على الداعية أن يجعل من الحياة مأتما، ولا أن يقابل الناس بوجه عبوس. فهذا الخطاب بحاجة إلى انفراج أسارير، ودعابة ينفتح بها الذهن وينشرح الصدر. لكنها في الحقيقة مجرد وسائل تُفتح بها مغاليق النفوس لينفذ الداعية إلى أعماق السامع، فيثير كوامن الخير ويقمع نوازع الشر. أما الاسترضاء وتكثير سواد المتابعين فلن يُحرك أمة تحتاج إلى تعليم ولو بالوخز والوكز كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله!