لا تخلو علاقة الثمن بالمثمن في صفقة التجارة أو البيوع من أربع صور: تارة قد يكون بتعجيل الثمن والمثمن في المجلس، أو يتم بتعجيل الثمن وتأجيل المثمن، أو يعقد بتأجيل الثمن وتعجيل المثمن، وقد يكون بتأجيل الثمن والمثمن معا، وخلاصة حكم هذه الصور الأربعة في الآتي:
الصورة الأولى: تعجيل الثمن والمثمن
الأصل في البيوع تعجيل الثمن والمثمن ويسمى هذا النوع ببيع ناجز أو بيع مطلق، وهو الذي تقتضيه طبيعة العقد، حيث يكون البدلان موجودين في حال العقد ويتم قبضهما في الحال، فالبائع يسلم السلعة للمشتري في المجلس والمشتري يسلم له النقد الفوري أو بما في حكمه بالفعل مثل البطاقات المصرفية، أو بالقوة القريبة من الفعل كالشيكات المصدقة، ويتأكد القبض الفوري في البيع إذا كان في الأثمان بعضها ببعض أو في الأموال الربوية.
قال ابن عبد البر:” الثمن أبدأ حالّ، إلا أن يذكر المتبايعان له أجلًا فيكون إلى أجله.”[1]
ونقل ابن رشد الحفيد الإجماع على أن الأصل في البيع الحال عدم التراخي بين العوضين، فقال:” أجمعوا على أنه لا يجوز بيع الأعيان إلى أجل، ومن شرطها تسليم المبيع إلى المبتاع عقد الصفقة[2]
ونصت مجلة الأحكام العدلية على أن “البيع المطلق ينعقد معجلًا، أما إذا جرى العرف في بلدة على أن يكون البيع المطلق مؤجلًا، أو مقسطًا إلى أجل معلوم ينصرف البيع المطلق إلى ذلك الأجل”[3]
وتظهر فائدة معرفة هذا القسم عند النزاع بين المتبايعين في تأخير أداء الثمن الحال أو تسليم المبيع دون سبب أو شرط مسبق، فيكون الحكم هو هذا الأصل.
الصورة الثانية: تعجيل الثمن وتأجيل المثمن
البيع الذي يتم فيه تعجيل الثمن مع تأخير المثمن يسمى السلم، ومفاد هذا أن ثمن المبيع -وهو رأس المال فإنه يكون- عاجلا وحالا، والمبيع يسلم في النسيئة والآجل، والشخص الذى يدفع ثمن المبيع يسمى المسلِّم، وصاحب السلعة الذى هو البائع يسمى المسلَّم إليه، والمثمن المؤجل يسمى المسلَّم فيه.
كطلب شراء الأرز ونحوه في الذمة، بتسليم النقود الحاضر في مجلس العقد، مع تحديد تسليم الأرز بأجل معين.
ولا خلاف في جواز بيع السلم، فقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم جائز.
لكن ذكر أهل الفقه في عقد السلم شروطا خاصة به مزيدة على شروط البيع العامة، لأجل أن يضبط ضبطا واضحا، وهذه الشروط مستخرجة من الحديث الصحيح الوارد في مشروعية بيع السلم، ومن ذلكم حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال:”قدم النبي – ﷺ – المدينة, وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين, فقال: من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم, ووزن معلوم, إلى أجل معلوم.[4]
وعليه يجب أن يكون السلم: معلوم الصفة، والجنس، والقدر، وأجل التسليم، مع بيان الثمن جنسا، وعددا، بما يمنع التنازع.
وكذا يتعين تعجيل الثمن (رأس المال) في عقد الاستصناع عند الجمهور لتشبهه بعقد السلم في كونه عقدا في الذمة، إلا أنه يتعلق بصناعة شيء موصوف في ذمة البائع، كأن يطلب المستصنع (المشتري) من الصانع (النجار الذى هو البائع) أن يصنع له باب المنزل، ويلزم المشترى (المستصنع) حينئذ تسليم الثمن في الحال لأنه بيع آجل بعاجل فيأخذ حكم السلم.
ولكن الحنفية لم يروا وجوب تعجيل الثمن في عقد الاستصناع لأنه عقد مستقل عن السلم كبقية العقود، وهو عقد جار فيما يصنعه البشر ولا يقبل ما دون الصناعة من السلعة كالزراعة مثلا، وإن كان يوجد الشبه بينه وبين السلم في دخولهما في صورة بيع المعدوم، ولكن لم يتشبها في جميع الوجوه.
ومذهب الحنفية هو المعمول به اليوم في ساحة عقود الاستصناع، وبه أفتى مجمع الفقه الإسلامي وغيره[5].
الصورة الثالثة: تأجيل الثمن وتعجيل المثمن
إذا تم التعاقد على سلعة حاضرة في حوزة البائع بالثمن المؤجل أقساطا كان أو مرة واحدة في مدة محددة، فهذه الصورة يدخل فيها بعض بيوع الآجال الجائزة التي عليها عمل المسلمون قديما وحديثا، وتجوز الزيادة في الثمن المؤجل عن النقد الحاضر عند جمهور أهل العلم بشرط أن يتم الاتفاق على تعيين ذلك في المجلس قبل الافتراق.
وأما التردد بين النقد والتأجيل دون الاتفاق الصريح المفهوم فممنوع شرعا، وكذا لا يجوز تطبيق شرط الجزاء في حال تأخر عن دفع المبلغ في الأجل المتفق عليه لأنه من صور الربا المحرم شرعا.
وبيع التقسيط يجري في هذا نوع من العقد، إلا أنه لم يشتهر بهذا الاسم في المدونات الفقهية الأصلية، وإن كان له صلة وثيقة ببيع الأجل المتحدث عنه الفقهاء في كتبهم، وكل من بيع الأجل وبيع التقسيط من ضروب بيع النسيئة، لكن بيع الأجل يتأجل بأجل واحد، خلافا لبيع التقسيط فإنه مؤجل لآجالٍ متعددة، أو يمكن القول بأنه “يوجد بين التأجيل والتقسيط علاقة عموم وخصوص مطلق، ففى كل تقسيط تأجيل، فالتأجيل هو العموم المطلق، وقد يكون في التأجيل تقسيط وقد لا يكون. فالتقسيط أخص من التأجيل”[6]
صورة بيع التقسيط والأجل: كأن يكون البيت معروضا للبيع بقيمة مأئة ألف نقدا حالا، وبمائة وعشرين ألف نقدا مؤجلا، ويقبل المشترى البيع بالأجل على أن يكون بالأقساط، ويدفع في نهاية كل شهر عشرة آلاف إلى نهاية السنة ويتم العقد بينهما على ذلك، وحيث يدفع جميع المبلغ في نهاية السنة فذاك بيع الأجل.
قال ابن قدامة: البيع بنسيئة ليس بمحرم اتفاقا ولا يكره[7]
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن بيع التقسيط: قرار رقم (64) أن:” البيع بالتقسيط جائز شرعًا، ولو زاد فيه الثمن المؤجل على المعجل”[8].
ونظير هذا الحكم ينطبق على بيع المرابحة للآمر بالشراء؛ بشرط أن تكون السلعة في ملك البائع أو يشتريها فيمكلها في حوزته قبل بيعها للمشتري بالأجل، فيكون الوعد بينهما في أثناء ذلك غير الملزم كما هو مقرر عند أهل العلم.
الصورة الرابعة: تأجيل الثمن والمثمن
إذا تم التعاقد في البيع على تأخير الثمن والمثمن عن مجلس العقد فإنه يعتبر بيع الدين بالدين، والأصل المجمع عليه في بيع الدين بالدين أنه عقد محرم لا يجوز قربانه والتعامل معه، وممن حكى الإجماع على ذلك: الإمام أحمد، وابن المنذر، وابن قدامة، وابن رشد وغيرهم
ولبيع الدين بالدين صور وتقاسيم كثيرة تتلخص في كون الدين إما لمن عليه الدين بثمن حال أو بثمن مؤجل، أو يكون الدين لغير من هو عليه الدين بثمن حال أو بثمن مؤجل.
إلا أنه تمت كلمة التحريم على صورة بيع الواجب بالواجب، وهو:”بيع دين مؤجل لم يقبض بدين مؤجل آخر لم يقبض”[9]
وعلل ابن القيم سبب المنع من هذا النوع فقال: “وفيه ذريعة إلى تضاعف الدين في ذمة كل واحد منهما في مقابلة تأجيله، وهذه مفسدة ربا النساء بعينها[10]
وأما بقية صور بيع الدين بالدين فالخلاف فيها قائم وسائغ.
ولكن إذا كان تأخير الثمن والمثمن في بيع معين موجود – من غير الأجناس الربوية – فإنه لا يدخل في بيع الدين بالدين، كمن يبيع السيارة لآخر مع تأجيل تسليمها وتأجيل الثمن لغرض، وهذا العقد لا بأس به، لفعل جابر مع النبي عليه الصلاة والسلام في تأخير تسليم البعير وتسلم الثمن إلى المدينة، ودل على جواز تأجيل العوضين في هذه الحالة.
ويجوز أيضا تأجيل الثمن والمثمن في عقد الاستصناع عند بعض أهل العلم كما تقدم.
[1] الكافي لابن عبد البر 2 / 726
[2] بداية المجتهد 2 / 170
[3] المادة (250) من المجلة وشرحها للأتاسي 2 / 170
[4] متفق عليه
[5] https://iifa-aifi.org/ar/1852.html
[6] درر الحكام 2/111
[7] المغني 4 / 176
[8] مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي
[9] مقال بعنوان: (بيع الدين بالدين أقسامه وشروطه) لراشد فهد آل الحفيظ
[10] إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 3/364