برز علمُ المستقبليات في الغرب المعاصر في خضم تراكم معرفي كبير في حقل البحث، له صلة بعالم الغد في سياق آفاق التنمية وبرامج التخطيط. وبعد الحرب العالمية الثانية أخذت الدراسات المستقبلية تتعزز في إطار مؤسسي منظم، وظلّت المدرسة الأمريكية رائدة في توظيف الدراسات المستقبلية في السياسة الخارجية، للمحافظة على مصالحها الاستراتيجية، بهدف الهيمنة والسيطرة، سواء على مستوى الدول، أو على مستوى المؤسسات والشركات والمنظمات.
ومع بداية القرن العشرين، بدأ البحث المستقبلي يأخذ طابعا علميا، في عام 1943 عرف بداية اصطلاح حقل علمي جديد أطلق عليه اسم علم المستقبل FUTUROLOGY يهدف إلى توقع الأحداث القادمة ورصدها ومحاولة التأثير فيها، وتطوير طرائق أفضل للتفكير في عالم الغد.
وبدأ هذا النوع من الدراسات، يشق طريقه، ويكاد يكتسح الدراسات الإنسانية برمتها، ويجذب إليه الباحثين الاستراتيجيين ويلقى صدى أكبر في المراكز الفكرية ذات السمعة الدولية؛ وبخاصة في ظل استراتيجية الدول، بالاعتناء به، وتوفير الدعم المالي الضخم، لانشغالها بوضعها المستقبلي القريب والمتوسط والبعيد. وهكذا يتم الحديث عن أمريكا سنة 2030 والصين 2030 وقطر 2030.
إن استبصار المستقبل ليس علماً جديدا، بل هو نزوع فطري قديم في الإنسان، إن آيات القرآن الكريم زاخرة بالدعوة إلى استشراف المستقبل، ووجوب التخطيط له، فهذا نبي الله نوح عليه السلام، مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، وعندما شعر بسداد حكمته ونفاذ بصيرته، أن لا فائدة تُرجى منهم، دعا على قومه قائلاً: { إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } (نوح: 27).
وإلى جانب القرآن الكريم، تحتفظ السنة الشريفة بأمثلة زاخرة، للتخطيط واعتبار المستقبل، وإن سيرة الرسول ﷺ قائمة على التخطيط للمستقبل، ورفض العفوية في التفكير، فلقد كان ﷺ يَعُدُّ لكل أمر عدته، ويستحضر له أسبابه وأُهبَته، ولعل غزوات الرسول والخطط المدروسة لها، دليل ساطع على استشراف الرسول للمستقبل، والتخطيط المنظم، مع التوكل الحق على الله تعالى.
لقد انعكس الاهتمام الإسلامي بالمستقبل، في التأسيس لمبدأ عظيم في علم أصول الفقه، اصطلح الأصوليون على تسميته باعتبار المآلات، وهو الذي يُعوَّل عليه في سبيل تفعيل أحكام الشريعة، وتنزيلها في الأمور المستجدة و المتوقعة؛ ولذا كان النظر في المآلات من أهم أعمال المجتهد، وعبّر عنه الإمام الشَّاطبي (590 ه) بأنه: «مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عَذْب المذاق، محمود الغِبِّ، جارٍ على مقاصد الشريعة».
إن الحديث عن المستقبل والعناية به أصيل في الفكر الإسلامي؛ فمن فوائد علم العمران عند العالم الموسوعي ابن خلدون (ت 808هـ)، أنه يعرِّفنا بما هو واقع وما هو متوقع، فالذي يتقن هذا العلم برأي ابن خلدون، يمكن أن تفتح له آراء استشرافية.
ولكن من المؤسف، أن الدراسات المستقبلية وإن كانت أصيلة في الفكر الإسلامي، إلا أن ذلك لا ينعكس على واقع الفكر الإسلامي المعاصر، ويتجلى ذلك في ندرة المؤسسات والدوريات المتخصصة في الدراسات المستقبلية في عالمنا الإسلامي، مما يدل على أن العالم الإسلامي المعاصر لا يهتم بهذا المجال من المعرفة اهتماماً جدياً وعملياً، على النقيض من الاهتمام الهائل الذي يحظى به هذا المجال في الغرب.