كنت قد تحدثت في مقالين سابقين عما يجب عمله في كل الأحوال والظروف إيماناً مني بأن هناك شيئاً ما يمكن القيام به من أجل نجاح العبد وفلاحه في أمور دنياه وآخرته.
وأود في هذا المقال وما يليه من مقالات أن أتحدث عن نوعية الوسط أو البيئة التي يجب العمل على المدى الطويل من أجل بنائها؛ كي يتوفر للإنسان المسلم الجو الملائم لأفضل عطاء وأفضل إنجاز ممكن.
والحقيقة أن أية أمة لا تستطيع استنفار طاقاتها والسيطرة على أوقاتها على وجه مقبول من غير رؤية (استراتيجية) لماهية البيئة التي يجب أن تحيا فيها أجيالها القادمة. ونحن بوصفنا أمة مسلمة لها منهجيتها ورؤيتها وتطلعاتها الخاصة، نعتقد على نحو جازم أن كل أشكال التنمية وكل أشكال التغيير والتطوير يجب أن تستهدف شيئاً واحداً هو توفير بيئة تساعد الإنسان المسلم على القيام بأمر الله -تعالى- على أفضل وجه ممكن، وهذه الرؤية نهائية وواضحة، وهي مستمدة من مجموعة العقائد والمفاهيم الكبرى التي نحملها، وهي رؤية متفردة، ليست لأي أمة من أمم الأرض اليوم، وهي إحدى سنن الله علينا.
إذا كان من غير الممكن -في عالم الأسباب- توقع حصول مستقبل مغاير مغايرة كبيرة للواقع؛ فإن علينا – إذا ما أردنا تكوين البيئة التي نريد – أن نحسِّن ونرشّد القرارات اليومية التي نتخذها في كل صعيد وعلى المستويات كافة؛ إذ إن تشييد البنيات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية يحتاج إلى أزمنة متطاولة وهو لا يتم على النحو الصحيح إلا من خلال العمل الحكيم والجذري والمتدرج.
البيئة تعني مجموعة المفاهيم والأخلاقيات والتقاليد والظروف والمعطيات والنظم المتوفرة والسائدة في بلد من البلدان .
وإن البيئة ذات دوائر متسعة منفتحة، والدائرة الأضيق بالنسبة إلى كل واحد منا هي الأكثر تأثيراً في حياته؛ فالأم هي أكثر من يؤثر في الطفل ثم الأسرة عامة، ثم الأقرباء وأهل الحي وهكذا…
والبيئة من وجه آخر أشبه بحبل غليظ مكوَّن من ألوف الخيوط والشعيرات الدقيقة، وكل عدد من تلك الخيوط والشعيرات ينتمي إلى مجال من المجالات الروحية والمعنوية والمادية. وقد دخل في نسيج ذلك الحبل في مرحلة من مراحل تكوّن ثقافة الأمة والأوضاع العامة التي تحيا فيها. وهناك تقريب للفكرة وإشارة إلى بعض تلك الخيوط والشعيرات في عدد من الأحاديث النبوية، منها قوله ﷺ: “كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع في الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، و تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة”، وقوله: ” الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” وقوله: “كل معروف صدقة”.
إن قول الله – جل وعلا –: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) يدل على رؤية الناس لجزاء أعمالهم في الآخرة، ويمكن أن نهتدي به في القول: إن ما يفعله الناس من خير وصلاح ومعروف وتنمية جيدة – إن كل ذلك يرونه في نوعية الأوضاع والظروف العامة التي يعيشون فيها، والتي ستعيش فيها ذراريهم من بعدهم؛ كما أنهم جميعاً سيرون آثار ما يصدر عنهم من شرور وآثام وأخطاء وخطايا على شكل صعوبات ومشكلات ومعوقات في وجه الحياة الطيبة التي يسعون إليها.
وإني أعترف هنا -وقبل كل شيء- أنني لا أملك الإمكانية الذهنية ولا المعرفة الكافية لرسم ملامح خطة شاملة وبعيدة المدى تستهدف توفير بيئة تساعد الفرد المسلم والدولة المسلمة على النهوض بأعباء الاستخلاف في الأرض، لكني سأبذل جهدي في وضع بعض النقاط على بعض الحروف الكبيرة، ومن الله – تعالى- الحول والطول.
1- قلما وجّه الدعاة والمصلحون لدينا اهتمامهم إلى نوعية البيئة التي يحتاج إليها المسلم كي يحيا زمانه بفاعلية ودرجة من الراحة في إطار العقيدة والقيم والآداب التي يؤمن بها، فقد كان الاهتمام – وما زال- بما يجب قوله أو بشروط الداعية الناجح دون النظر إلى الشروط التي تجعل المدعوين أقرب إلى التفاعل والاستجابة مع أن تأثير الظروف والمعطيات السائدة في توفير خيارات الحركة، وفي حفز الناس على تحديد اتجاهاتهم ومواقفهم تأثير هائل، وأكبر بكثير مما نظن.
إن الفرق بين البيئة المعاكسة والبيئة المواتية للاستقامة والرشاد والعطاء كالفرق بين من يسبح عكس التيار، ومن يسبح مع التيار؛ حين نطلب من شاب أن يبدع ويصبح باحثاً متميزاً في فرع من فروع العلم، ونجد أنه يعيش مع خمسة من إخوته في حجرة واحدة، وليس معه ثمن مرجع يشتريه، ولا تكاليف تجربة يجريها، كما أنه ليس في البلد الذي يقيم فيه مكتبة عامة ولا مركز تدريب ولا جمعية خيرية تمد يد العون في شيء..
حين نطلب ذلك؛ فإن الاستجابة ستكون في منتهى الصعوبة، وستكون في معظم الأحيان هزيلة، وسيكون المستجيبون من الشباب للتحفيز على البحث والإبداع قلة قليلة، أما الباقون فإنهم سيرضخون للظروف وسيرضون بأقل القليل من الإنجاز. وهذا ما هو حاصل فعلاً الآن في كل أنحاء العالم، وفي كل مجالات الحياة. البيئات المحطَّمة والهشة والجاهلة تحطم قوى من يعيش فيها، وتحطم تطلعاته وطموحاته، وتجعل آفاقه محدودة. ولهذه القاعدة شذوذات ملموسة ، لكن الذي يمنح الحياة ملامحها ليست الأمور الشاذة والنادرة وإنما الأمور الغالبة والكثيرة.
إن بلداً صغيراً مثل هولندا أو بلجيكا يسجل من براءات الاختراع ما يعادل نصف ما يسجله العالم الإسلامي بطوله وعرضه! وإن براءات الاختراع التي تسجل في (إسرائيل) سنوياً يزيد على ما يسجل في الوطن العربي ذي الثلاثمائة مليون!!، وإن ما تنشره جامعة (هارفارد) من بحوث سنوياً يعادل ما تنشره كل الجامعات العربية مجتمعة!!
2- إذا تأملنا في ردود أفعال الأمة على جملة الانحرافات التي كانت تحدث فيها لوجدنا أننا على مدار التاريخ – مع استثناءات مقدَّرة – كنا نعالج مشكلاتنا بوسيلتين؛ هما: سنّ المزيد من النظم والقوانين التي تقيّد حركة الناس وتحدّ من اندفاعاتهم، وقد عبّر عن هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين قال: ” يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور” أي يحدث نوع من التشديد في الأقضية والجزاءات على مقدار ما يصدر منهم من تصاعد في الانحراف.
والوسيلة الثانية هي: (القوة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد أشار إلى ذلك عثمان – رضي الله عنه – حين أطلق مقولته الشهيرة: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، ولو أن أبا بكر – رضي الله عنه– قال ذلك لما قُبل منه ولما كان دقيقاً؛ لأن الردع في زمانه كان بالقرآن (وهو ما نعبر عنه اليوم بالثقافة) أكثر من الردع بالسلطان (وهو ما نعبر عنه القوة)، ومع اضمحلال دور الثقافة والوازع الداخلي كان اللجوء إلى استخدام الشدة في إدارة الحياة العامة يتعاظم وينتشر، وقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن الشعبي قوله: ” كان عمر فمن بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كفَّ الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال: هذا كله لعب فقتل بالسيف”.
النتيجة النهائية لهذه وتلك هي إخراج المسلم الخائف والخانع والسلبي والإمعة وإخراج المجتمع الذي يُظهر ضروباً من الامتثال للنظم السارية في الوقت الذي يضمر فيها روح التمرد والتبرم، كما يضمر الكثير من السلوكات والأعمال السيئة.
ومع إيماننا بأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش من غير نظم وقوانين توجه الحركة الاجتماعية وتشكل المرجعية الأخلاقية والتنظيمية للناس، ومع إيماننا بأن الدولة مهما كانت عادلة وفاضلة وناجحة لا تستغني عن استخدام شيء من السلطة والقوة؛ إلا أن علينا أن ندرك أن هذا الأسلوب في معالجة الأخطاء ليس هو الأسلوب الصحيح من وجهة النظر الإسلامية، ولا هو بالأسلوب العملي والمنتج والملائم لبلوغ الأهداف التي نسعى إليها.
على المدى البعيد لا بد من العمل على توسيع مجال عمل (الثقافة) في تحديد مسارات المجتمع وفي كبحه عن الانحراف والرذيلة . فجوهر الإيمان والإسلام لا يقوم على الإكراه ولا على الامتثال للضغط الخارجي، وإنما يقوم على الاختيار والمبادرة الشخصية والشعور بالمسؤولية. والدولة الفاضلة هي التي تدير شؤون مجتمعها بأقل قدر من القوانين ومن أدوات القهر والإكراه، والفضيلة لا تكون لذلك إلا بتعشق الناس لها واستعدادهم للتضحية من أجلها.
إن كثرة السجون وتصاعد الرقابة الصارمة، وسن المزيد من القوانين؛ هو دليل على قصور التنشئة الاجتماعية، كما أنه دليل على ضعف الإيمان وأدبيات التدين السائد في تشكيل مواقف الناس وسلوكاتهم، ودليل على ضعف جاذبية الدولة في كسب ولاء الناس وتجاوبهم. وقد آن الأوان للتفكير العميق والعمل الجاد من أجل تشكيل بيئة يمتنع فيها الناس عن الانحراف والفساد بدافع من إيمانهم وخوفهم من الله –تعالى- وليس بدافع من خوف الدولة أو كلام الناس. ومداخل مثل هذا الاتجاه واضحة لدى أهل البصيرة والخبرة.
فإن وضع الأمة في بيئة تساعدها على تحسين إنتاجيتها وتحرير طاقاتها واكتشاف إمكاناتها الحضارية الكامنة؛ يتطلب أن نعطي لمسائل الأمن والاستقرار والسلام والوئام الاجتماعي جلَّ اهتمامنا وعنايتنا.
حين يضطرب حبل الأمن فإن الفرصة تصبح متاحة لظهور كل أشكال التوحش والهمجية التي اختفت تحت قشرة رقيقة من طلاء الحضارة. وقد دلت شواهد التاريخ ومعطيات الواقع أن أشد الحاجات إلحاحاً تتمثل في اهتداء الناس إلى طريقة ناجعة لإدارة العنف والتوتر الذي ينشأ نتيجة تصادم رغباتهم ومصالحهم؛ حيث إن اجتماع الناس بعضهم مع بعض على مقدار ما يوفر من المباهج والمسرات والمشاعر الحميمة يوفر إمكانات التناحر والتحارب.
حاجة الناس إلى أن يتعايشوا في إطار نظم وقوانين توضح مبادئ حقوقهم وواجباتهم حاجة ماسَّة؛ لكن هذه الحاجة لا يمكن تلبيتها في أجواء الحرب الأهلية والتطاحن الاجتماعي.
إن القانون السائد مهما كان غير عادل وغير مكتمل فإنه يظل خيراً من الوضعيات التي لا يحكم فيها أي قانون حيث يتحول المجتمع إلى غابة ليس فيها إلا مفترِس ومفترَس وظالم ومظلوم!.