تضرب هذه الأيام أمريكا أعاصير مدمرة، أجْلت الملايين عن ديارهم وبلدانهم، وتسببت في خسائر ضخمة تضاهي ميزانيات الحروب.
وقد أثارت هذه الأعاصير جدلاً واسعًا، وتساؤلات حول العلة منها:
– هل هي انتقام من الله لأمريكا التي تسوم شعوب الأرض سوء العذاب؟
– أم هي مجرد ظواهر كونية متكررة تحدث بين حين وآخر في بعض المناطق في العالم؟
وقبل الإجابة على ما فات نقف على بعض الأمور علّها تضع أيدينا على الطريق الصحيحة لفهم الأمر.
الدلالة على كمال القدرة
لا شك أن هذه الظواهر الكونية من قدر الله الكوني الذي يجري على البشر، وتعم المسلمين والكافرين.
وهذه الظواهر الكونية من آيات الله في خلقه، والتي تدل على كمال القدرة وطلاقتها، وإذا كان هذا الكون الفسيح في قبضة الخالق القاهر -سبحانه- يصرفه كيف يشاء، فكيف بهذا المخلوق الضعيف؟
وهناك من استدل على الخالق بخلقه ومصنوعاته، ولكن البعض قد خاف من المخلوقات وتوجه لها بالعبادة؛ فهناك عبّاد الشمس والكواكب، والرياح والأمطار… إلخ.
أفعاله -تعالى- لا تخلو من حكمة
لا يجوز على الباري -تعالى- اللهو أو العبث، وأفعاله لا تخلو من الحكمة، عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
ومن الحكم وراء هذه الظواهر الكونية:
1- التخويف
وقد علل النبي المصطفى بعض الظواهر الكونية؛ فقال -صلى الله عليه وآله وسلم- عن ظاهرتي الخسوف والكسوف: “إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ”([1]).
فالإنسان يطغى وينسى، والله يريد أن يعود به إلى جادّة الطريق، وقد كان الخوف من الله القاهر الذي يرسل هذه الآيات يظهر على وجه المصطفى وأفعاله.
فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: ما هبت ريح قطّ إلا جثا النبي -ﷺ- على ركبتيه وقال: “اللهم اجعلها رحمة، ولا تجعلها عذابًا، اللهم اجعلها رياحًا، ولا تجعلها ريحًا”([2]).
وكان النبي -ﷺ، فيما روته أمنّا عائشة- إذا عصفت الريح قال: “اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به”.
قالت: وإذا تخيلت السماء([3]) تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سُرِّي عنه، فعرفت ذلك في وجهه.
قالت عائشة: فسألته فقال: “لعله -يا عائشة- كما قال قوم عاد: ﴿فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: 24]”([4]).
وقد صاحبت الظواهر الكونية عبادات مخصوصة وأدعية مخصوصة؛ فكما رأينا أن النبي المصطفى قد خص ظاهرتي الكسوف والخسوف بصلاة لها هيئة مختلفة عن باقي الصلوات، وللمطر وللرياح أدعية مخصوصة.
وقد نهى المصطفى عن سب هذه الظواهر الكونية؛ لأنها مأمورة؛ فعن أبي هريرة قال قال: رسول الله -ﷺ: “لا تسبوا الريح؛ فإنها تجيء بالرحمة والعذاب، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا من شرها”([5]).
2- الاستعتاب
“والاسْتِعْتابُ: طَلَبُك إِلى المُسِيءِ الرُّجُوعَ عن إِساءَته”([6])، والله -تعالى- إذا ابتعد خلقه عنه يذكّرهم علهم يرجعون وينتهون ويتوبون إليه، فمنهم من تصله الرسالة فيبادر بالعودة وطلب العتبى، ومنهم من يغفل عن ذلك ولا يفهم هذه الرسائل.
قال محمد بن عبد الملك بن مروان: “إن الأرض زلزلت على عهد رسول الله -ﷺ- فوضع يده عليها، ثم قال: (اسكني؛ فإنه لم يأن لك بعد)، ثم التفت إلى أصحابه فقال: (إن ربكم يستعتبكم فاعتبوه).
ثم زلزلت بالناس في زمن عمر بن الخطاب فقال: أيها الناس، ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه، والذي نفسي بيده لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا”([7]).
الدنيا دار كدر وسرعة تبدل الأحوال
هذه الدار الدنيا ليست دار راحة أو نعيم أو استقرار، بل هي دار أكدار ونصب وتعب؛ وهذه الظواهر الكونية مما يكدر على الإنسان عيشه، وتؤرق حياته، فقد يظن البعض أن الحال قد استقرت معه وقد طاب عيشه، فيأتي زلزال أو فيضان أو إعصار فيتهدم المنزل، أو يغادره مرغمًا على ذلك، بل قد يترك بلده كليًّا، وينزل الخيام بعد سكنى القصور، وقد يحدث هذا في عشية وضحاها، فتتبدل الأحوال من حال إلى حال.
صلاح أحوال الأرض
الأصل في الظواهر الكونية أنها ليست مستمرة الحدوث، بل تأتي على فترات متباعدة، وهذا يعني أن الأرض في أصلها ممهدة للعيش والسعي وطلب الرزق، فالأصل -مثلاً- اعتدال الجو، وإنما يأتي عارض الأعاصير أو الفيضانات أو البرد الشديد أو الحر الشديد، وهذا العارض لا يدوم بطبيعة الحال، وتعود الأحوال إلى سابق ما كانت عليه.
الظواهر الكونية ليست شرًّا محضًا
فقد تحمل في طياتها خيرًا لطرف ما، وشرًّا لطرف آخر؛ فالفيضانات -مثلاً- قد تدمر وتجرف بعض البيوت وتدمر بعض الزروع، لكنها تحمل معها الطمي الذي يجدد خصوبة التربة.
وفي الحرب العالمية الثانية كانت الثلوج والبرد الشديد في صالح الروس ضد خصومهم الألمان الذين احتلوا أجزاء من الاتحاد السوفيتي، وحاولوا الوصول إلى موسكو، لكنهم لم ينجحوا، وكانت العوامل الجوية من أسباب فشل هذه الحملة الألمانية.
وقد ذكر البعض فوائد لتلك الأعاصير المدمرة في التوازنات البيئية والجوية.
والبراكين من أهم الأسباب في خصوبة التربة.
الظواهر الكونية لا تختص بقوم دون آخرين
هذه الظواهر الكونية تصيب المسلمين وغير المسلمين؛ فالزلازل تحدث في البلدان الإسلامية كما تحدث في غيرها، والفيضانات تحدث في البلدان الإسلامية وفي غيرها، والتسونامي كذلك، والأعاصير كذلك … إلخ.
لكن العبرة بالتعاطي معها، فهي في ظاهرها بلاء، وقد تتسبب في هلاك بعض الأنفس، وإتلاف بعض الأملاك، فمن رضي واسترجع واحتسب نال الأجر والثواب، وكان هذا البلاء في ميزان حسناته، ومن سخط وجزع حلّ به ما حلّ بغيره ورجع مأزورًا.
وأخيرًا
فهذه الظواهر الكونية جنود من جنود الله يرسلها الله على من يشاء من عباده، فيبتليهم بها، ويخوفهم بها، وقد تكون عذابًا للبعض، فمن رجع لربه وقدره حق قدره نال الأجر العميم، ومن أعرض عن رسائل ربه مسه هذا العذاب في الدنيا، ويرد يوم القيامة إلى ما هو أشد وأنكى.
([1]) أخرجه البخاري في “الكسوف”، باب: “قَوْلِ النَّبِيِّ -ﷺ: (يُخَوِّفُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِالْكُسُوفِ)…”، ح(1048) عن أبي بكرة -رضي الله عنه.
([2]) مسند الشافعي، ص(81).
([3]) “قَالَ أَبُو عُبَيْد وَغَيْره: تَخَيَّلَتْ مِنْ الْمَخِيلَة بِفَتْحِ الْمِيم: وَهِيَ سَحَابَة فِيهَا رَعْد وَبَرْق يُخَيَّل إِلَيْهِ أَنَّهَا مَاطِرَة، وَيُقَال: أَخَالَتْ إِذَا تَغَيَّمَتْ” [شرح النووي، (6/196-197)].
([4]) أخرجه مسلم في “صلاة الاستسقاء”، باب: “التَّعَوُّذِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الرِّيحِ وَالْغَيْمِ وَالْفَرَحِ بِالْمَطَرِ”، ح(899).
([5]) أخرجه أحمد في “المسند”، ح(9627)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على “المسند”: “صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن”.
([6]) لسان العرب، مادة (عتب).
([7]) العقوبات لابن أبي الدنيا، ص(29).