من المفاهيم التي يكثر حولها الجدل في واقعنا المعاصر مفهوم “التجديد”؛ سواء في بُعده الشرعي وما يرتبط بالاجتهاد في الدين، أو في بعده الفكري والفلسفي وما يرتبط بإحداث نهضة في المجتمع.. بجانب مفهوم “القيم”، وما يُطرح بشأنها من القابلية للتجديد أو للتغيير..
في هذين الموضوعين الشائكين نطرح أسئلة على الأكاديمي المصري الدكتور عماد الدين إبراهيم عبد الرازق، أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب- جامعة بني سويف، وله العديد من الكتابات والإسهامات الفلسفية والفكرية؛ منها: القيم في الفكر الألماني: هابرماس نموذجًا.. فلسفة الدين عند جوناثان إدواردز.. العقل عند أرمسترونج.. مدخل إلى فلسفة الحضارة.. نقد الحضارة الغربية في فكر مالك بن نبي.. مدخل إلى الميتافيزيقا.. فإلى الحوار:
كيف ترون مفهوم “التجديد”؟
“التجديد” سنة كونية، وضرورة حياتية لاستمرار الحياة وتطورها؛ فالتجديد هو الحياة، لو توقف في أي مجال من مجالات الحياة لتوقفت الحياة؛ لأن سنة الحياة التطور والتقدم والتجديد.
أما إذا حددنا مجال التجديد في الدين، فإنني أرى أنه ضرورة ملحة، ولكن بشروط لعل أهمها أن يكون تجديدًا في فروع الدين، وليس في أصول الدين وثوابته؛ فالأصول- مثل العبادات من صلاة وزكاة وحج وصيام- لا نستطيع أن نغير فيها، فهي ثابتة.. هل ممكن مثلاً أن أغير في عدد ركعات الظهر، وأجعلها ثلاثًا أو خمسًا بدعوى التجديد؟!
والتجديد لا يعني إحداث بدع في الدين.. وليس كل شخص مؤهَّلاً للتجديد، بل يجب أن يقوم به من يكون حافظًا وعالمًا بأحكام كتاب الله، عالمًا وحافظًا للسنة النبوية، ملمًا بما يتعلق من أحكام في اللغة العربية.. وغيرها من الشروط.. فالتجديد ليس كلأً مباحًا لأي أحد دون ضوابط.
لماذا يثأر بين الحين والآخر جدل حول مفهوم “التجديد” ومشروعيته؟
“التجديد” من المفاهيم التي ثار الجدل حولها في الآونة الأخيرة؛ وإذا أردنا أن نعرف معنى التجديد في اللغة فهو جعل الشيء القديم جديدًا. أما معناه الاصطلاحي فهو إحياء رونق الدين وصفائه ونقائه، وتخليصه من كل البدع والخرافات التي لحقت به. فالتجديد هو محاولة إحياء ما اندثر من الدين ومبادئه. ولعل أصل مشروعية التجديد هو حديث رسول الله ﷺ: “يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها” (رواه أبو هريرة وأخرجه أبو داود والحاكم والترمذي). فالتجديد سنة كونية، كما أشرنا.. وهو أيضًا من مبادئ الإسلام، ويدعو إليه الإسلام.. والاجتهاد والتجديد وجهان لعملة واحدة.
ولعلنا نشير في هذا السياق إلى أن التجديد له ثلاثة محاور:
1-أن يكون مرتبطًا بإزالة ما تراكم من انحرافات وقعت على تعاليم الإسلام ومبادئه، بفعل سلوكيات بعض المسلمين، وعدم فهمهم جوهر دينهم.
2- التجديد يكون بمحاولة القضاء على البدع التي ابتدعت في الدين.
3- التجديد يكون بنشر محاسن الإسلام في مجال العقائد والأخلاق والمعاملات.
وهنا، أشير إلى أن الواقع الحالي للأمة الإسلامية يفرض التجديد ويوجبه أكثر من أي وقت مضى؛ نظرًا للتحديات غير المسبوقة التي تواجه الإسلام والمسلمين.. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: لماذا كثر الكلام حول التجديد في الآونة الأخيرة، ويتكلم فيه من كان متخصصًا وغير متخصص؟! الإجابة من وجهة نظري تتمثل فيما تمر به الأمة الإسلامية من عوامل ضعف وتخلف ونزاع وشقاق.
لقد أصبحت الأمة الإسلامية متخلفة عن ركب الحضارة، وبعض الناس ينسبون هذا التخلف إلى الدين. وهذا غير صحيح لذا وجب أن نظهر الوجه الإسلامي الحقيقي، بما فيه من دعوة إلى التقدم والأخذ بالعلم وأساليبه، والحث على التطور والتقدم. من هنا، يجب على المتخصصين أن يضطلعوا بهذه المسؤولية والقيام بها على خير وجه؛ لأن التجديد علاج لما يحدث من انحرافات في حياة البشر والمجتمعات.
“التجديد” في بُعده الشرعي يكاد يستحوذ على الاهتمام، بينما غاب- أو لم يحضر بالقدر الكافي- التجديد في بعده الفكري والفلسفي؟
مما لاشك فيه أن الفلسفة تمثل قوة معرفية وفكرية هائلة، وهي إحدى القوى العقلية المؤثرة في حياة المجتمعات، أو هي عصرها معبرًا عنه بالأفكار كما قال الفيلسوف الألماني (هيجل)؛ فالفلاسفة هم ضمير الأمة، هم الذين يحللون الأزمات والمشاكل في عصرهم، هم مرآة العصر. والفلسفة، على عكس الانطباع الشائع، لا تنعزل في برج عاجي، بل الفلاسفة يتفاعلون مع أزمات ومشاكل عصرهم. وكما قال ديكارت: إذا أردت أن تعرف تقدم ونهضة أمة، فابحث فيها عن عدد الفلاسفة.
وإذا كان التجديد سنة الحياة في أي مجال من المجالات، كذلك هناك تجديد في المجالات الفلسفية، ولم يغب التجديد في هذه المجالات، ولم يتوقف.. لماذا؟ لأن كل مذهب فلسفي يقوم على السابق ويضيف إليه ويتطور ويأخذ منه اللاحق وهكذا.. فهناك تجدد باستمرار، بل إن الحضارات أيضًا فيها تجدد وتطور، كل حضارة تأخذ من السابقة، وتضيف من رصيدها ثم تأتي اللاحقة وتضيف وهكذا، في عملية تفاعل وتبادل حضاري، كما قال بذلك المؤرخ وفيلسوف الحضارة (أرنولد توينبي)؛ الذي أوضح أن الحضارات في عملية استجابة وأخذ وردٍّ دائمًا.
ومن هنا نشير إلى أنه قد ظهرت عمليات إصلاح وتجديد في الفكر الفلسفي بوجه عام والإسلامي بوجه خاص. فابن رشد مثلاً كان صاحب مشروع حاول فيه أن يوفق بين الفلسفة والدين أو الشريعة، ومازال نموذجًا مؤثرًا في الغرب إلى الآن. وفي الفكر الفلسفي الإسلامي في العصر الحديث ثمة مشاريع تنويرية نهضوية فلسفية كثيرة.. وقد يتوقف التجديد في الفكر الفلسفي، مثله مثل أي تجديد في مجال آخر؛ نظرًا لظروف وواقع المجتمعات من ضعف حضاري، وتخلف وأمية وفقر واستعمار وغيرها.. لكن في النهاية تستمر عجلة الحياة إلى الإمام.
ولقد نجحت المشاريع التجديدية في الفلسفة في إلحاق الهزيمة بالمستعمِر وأعوانه، ويجب أن نشير إلى حقيقة مهمة، وهي أن أفكار ومذاهب الفلاسفة أدت دورًا تنويريًّا وإصلاحيًّا.. فعلى صعيد الفكر الفلسفي الغربي، كانت أفكار روسو وفولتير ومونتسيكو من العوامل المحفزة لقيام الثورة الفرنسية.. وعلى مستوى العالم الإسلامي، كانت المشاريع التجديدية والإصلاحية عند جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما، مؤثرةً في حياة الشعوب.
مسيرة التجديد الفلسفي في العصر الحديث.. كيف تنظرون إليها؟
أنظر إليها على أنها مسيرة جزئية غير متكاملة.. أنها جهود فردية هنا وهناك، لا يجمعها رابط أو منظومة متكاملة.. أنها تمثل عزفًا على لحن منفرد.. ومع ذلك هناك محاولات للتجديد لمحاولة بث الحياة وتدفقها في المسيرة الفلسفية. مثلاً محاولات طه عبد الرحمن بتبني التجديد والرؤية الفلسفية في منظومة القيم الإسلامية، والتفاعل مع التراث لاستخراج مكنوناته التي تتفق مع عصرنا، ويحاول ألا يحدث قطيعة معرفية مع التراث، ومحاولة أن نعيش مع ما يتفق مع بيئتنا وعاداتنا الإسلامية وقيم ديننا.. أيضًا محمد عابد الجابري وحسن حنفي ومحمد أركون، في محاولة تأسيس ما يسمى الإسلاميات التطبيقية وهو علم محاولة تجاوز الإسلاميات الكلاسيكية، وتطبيق مناهج حديثة في قراءة التراث.
ومن وجهة نظري فشلت معظم تلك المشاريع التجديدية في الفلسفة في عصرنا الحديث، لأن أصحابها انعزلوا عن واقع ومشاكل وأزمات مجتمعاتهم.. كانت هناك فجوة بين التنظير والواقع العملي.. ثانيًا من وجهة نظري أن هذه المشاريع حاول أصحابها أن يطبقوا مناهج غربية معاصرة كالماركسية والتفكيكية والبنيوية وعلوم اللسان، على تراثنا الإسلامي والعربي.. وهنا كأنك تزرع في غير تربتك، فلم تأت الثمرة.
لكم اهتمام أكاديمي بموضوع القيم.. كيف ترون القيم في عالمٍ إحدى صفاته الأساسية التغير؟
القيم ضرورية في حياة الأفراد والمجتمعات، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل مجتمع ولكل عصر قيمه الخاصة به، التي قد تختلف عن المجتمعات الأخرى لظروف ثقافية واجتماعية وسياسية، واختلاف العادات والتقاليد. فالقيم في عالم متغير تكون فاعلة ومنفعلة، فهي توجه السلوك وتقود التغيير، وتتأثر في الوقت نفسه بالتغير فتنمو أو تضعف. فالعلاقة بين القيم والتغير علاقة متبادلة. والتغير يمكن أن يكون سريعًا أو بطيئًا، صاخبًا أو هادئًا.. وهذا يعتمد على القيم الاجتماعية التي تحكم المجتمع، ويتم التفاعل الاجتماعي في ضوئها.
وفي هذا السياق نشير إلى أن فهم التفاعل الثقافي وضبط مسارات التغيير الاجتماعي مرتبط بمعرفة القيم التي يتم التفاعل في ضوئها. فالقيم هي التي تمنح الشرعية لفعل ما فيكون مقبولاً في المجتمع أو مرفوضًا، وهي بهذا تيسر التغيير الاجتماعي أو تعوقه. فالقيم- باعتبارها مبادئ ومعايير للسلوك- تمثل مرجعية لهذا السلوك.
هل “القيم” في حياة الإنسان ضرورة أم ترف أم خيار مباح؟ ولماذا؟
كما أشرنا، فالقيم ضرورة حياتية لا غني للأفراد أو المجتمعات عنها، وهي ليست ترفًا على الإطلاق بل أساسية. لأنها حصن للإنسان من الانحراف، وهي بوصلة لضبط وتوجيه السلوك البشري الوجهة السوية والصحيحة. كما أن على أساسها تقوم الحضارات، إذ لا يوجد حضارة من الحضارات بدون قيم، أيا كان نوع هذه القيم. فهي تشكل الجانب المعنوي في السلوك، وتعمل على إصلاح الفرد نفسيا وخلقيا، وضبط دوافعه ومطامعه وشهواته وغرائزه. فهي قوة دافعة للعمل، كما أنها تمثل البناء التربوي للأفراد والمجتمعات.وهي إحدى الركائز لضمان فاعلية النشاط الإنساني، فهي تقي المجتمع من الأنانية المفرطة والنزعات الطائشة.
ما أوجه التشابه والتمايز بين “القيم” في الفكر الإسلامي والغربي؟
هذا موضوع مهم وكبير ويحتاج لكتب كثيرة لرصده.. لكن نشير سريعًا إلى أوجه الاختلاف أولا بين القيم في الفكر الإسلامي والقيم في الفكر الغربي:
1- المفهوم الإسلامي للقيم مستمد من شرع الله القويم، وتوزن عناصره بميزان الكتاب والسنة؛ أما القيم الغربية فتوزن بميزان الفكر البشري القاصر، أو التفاعل مع البيئة الاجتماعية.
2- المفهوم الإسلامي للقيم يتميز بالوضوح والجلاء والاعتدال، بخلاف المفهوم الغربي للقيم فيتميز بالغموض والإبهام والتخبط. القيم في الفكر الإسلامي قيم روحانية، أما القيم في الفكر الغربي فهي قيم مادية بحتة.
ولعل أبرز التشابه بين القيم الإسلامية والغربية هي الاهتمام بالإنسان، ومحاولة تطبيق تلك القيم في الواقع الاجتماعي، مع الأخذ في الاعتبار أن لكل منهما وسيلته الخاصة وطريقته المختلفة.
كشفت أزمة “كورونا” عن الحاجة لإعادة ترتيب أولويات الحضارة المعاصرة، لصالح تقدم البحث العلمي المتصل بحياة الإنسان، وتراجع سباقات التسلح.. هل تتفقون مع هذا الطرح؟ وما صلة ذلك بالقيم: ما يجب أن يتراجع منها، وما يجب أن يُستدعَى؟
نعم أتفق تمامًا، فأزمة فيروس كورونا (كوفيد 19) أفرزت قيمًا لصالح البحث العلمي والطبي، وجعلتنا نرى بوضوح أهمية دور العلم والطب في هذه الأزمة. آن الأوان للاهتمام وبسرعة بالبحث العلمي والطبي ورصد ميزانيات كبيرة لحل تلك الأزمات، بدلاً من الاهتمام بصرف الميزانيات الضخمة على أمور أقل أهمية.. وأنتهز تلك الفرصة لكي أشيد بدور الأطباء والممرضات الذين يقفون على الخط الأمامي في المواجهة مع هذا الفيروس القاتل ويضحون بأنفسهم من أجل الآخرين.
من هنا استدعت تلك الأزمة ضرورة الاهتمام بالبحث العلمي وتشجيع العلماء وإنشاء المعامل، ورصد الميزانيات الضخمة من أجل العلم والعلماء، لأنه لا توجد نهضة لأي أمة أو مجتمع بدون العلم والعلماء، فالعلم هو قاطرة التنمية.
أيضًا اكتشفنا أن من القيم التي يجب استبعادها قيم التواكل على الآخرين، وقيم التكاسل في انتظار أن يقوم الآخرين في الغرب في اكتشاف اللقاح أو المصل العلاجي، وهذه كارثة لماذا لا نعمل ونجتهد؟.. عندنا علماء كثيرون ومجتهدون وعباقرة، لكن توفير الإمكانيات المادة والتكنولوجية سوف يساعدهم على الاكتشافات والابتكارات والإبداع.. بدليل أنه عندما يتوفر لهم هذا في الغرب، فإنهم يبدعون.