شغل العالم الإسلامي وكذا المسيحي وخاصة شقه الأرثذوكسي بقضية عودة آيا صوفيا مسجدا كما كانت منذ الفتح الإسلامي لها في ربيع (1453) على يد السلطان المسلم الشاب محمد الفاتح عليه الرحمة والرضوان، في فتح كلف المسلمين آلاف الشهداء بعد معارك ومحاولات عديدة منذ القرن الأول لكسر رأس الإمبراطورية البيزنطية التي ظلت في حرب مع الإسلام طوال ثمانمائة عام.
حرب كلفت المسلمين الكثير، في مرابطتهم الدائمة على ثغور الأناضول في حملات الصوائف والشواتي أيام العباسيين، كما كلفتهم فقدان الشام مائتي عام، وذلك عندما عبرت الجيوش الصليبية الأولى أراضي الإمبراطورية البيزنطية وبتسهيل مباشر منها لتصل طلائع الصليبيين وتسقط أنطاكية وطرابلس وصور وعكا، وتصل إلى القدس وتذبح في مسجدها سبعين ألف مسلم في يوم واحد.
ولم يقف العداء البيزنطي عند هذا الحد، فعند هرم هذه الدولة لم تكف عن نسج المؤامرات لإرهاق إمارات السلاجقة، وتسليط تنظيمات فرسان المعبد والقديس يوحنا وغيرهم لنشر الإرهاب البحري في البحر المتوسط، وترويع التجار والحجاج باختطافهم وبيعهم أو اتخذاهم مجدفين في سفنهم.
فلم يكن بد من قطع رأس الأفعى، فكانت الحملات العثمانية التي التفت على القسطنطينية وعزلتها عن عمقها في البلقان إلى أن كان الفتح النهائي لها يوم (29 ماي 1453)، وكان لهذا الفتح دوي في أوربا كلها، مما جعلتها تؤرخ به لانتهاء عصورها الوسطى المظلمة، وبداية للتاريخ الحديث .
وعلى الرغم من أن ترتيبات القانون الدولي آنذاك تنص على أن المغلوب لا يملك من أمره شيئا إلا التسليم لرغبة المنتصر، إلا أن سلوك محمد الفاتح كان مغايرا لمسلكيات قادة أوروبا آنذاك، حيث كان الصفح عن المدنيين والسماح لهم بالبقاء أو الهجرة، والحفاظ على أموالهم وممتلكاتهم.
وفي مقابل هذه الصورة المتسامحة في أقصى شرق أوروبا، فقد كانت الصورة في أقصى غربها حالكة، حيث كان الاجتثاث المسيحي للوجود الإسلامي في إسبانيا والبرتغال قائما على قدم وساق بمحاكم التفتيش ومنصات الحرق والإجبار على التنصر فيما عرف بمحنة الموريسكيين وإسقاط غرناطة (1492م)، وإنهاء وجود الإسلام بعد ثمانمائة سنة من الحضارة والإشعاع والعطاء.
لقد افتحت القسطنطينية عنوة، وبمنظر القانون الدولي آنذاك، فقد كان الفاتح قادرا على محو كل المعالم والآثار الدينية لمخالفيه ومحاربيه، ولكنه لم يفعل ذلك، لقد أبقى للمسيحين الروم كنائسهم مثل كنيسة الحواريين، وأكرم قسسهم وبطارقهم، ولم يمنعهم من أداء شعائرهم، ولم تُستثن من ذلك إلا الكنيسة العظمى التي حولها إلى مسجد، وجاءت الأيام لتكشف الوثائق أن التحويل كان برضا القائمين على الديانة، وبتعويض مرض من السلطان محمد الفاتح، وكان قادرا على ذلك التحويل بغير هذا التعويض الكبير.
من المعلوم أن الفقه الإسلامي له موقف مشهور في الأراضي المفتوحة، فهو يميز بين ثلاثة أنواع:
أ/ الأراضي المفتوحة عنوة أي بالقوة العسكرية، فهي ملك تام للمسلمين، ولهم أن يتصرفوا فيه بمقتضى النظر المصلحي، وهاته لا يجوز إحداث معابد فيها لغير المسلمين إلا بإذن من السلطان.
ب/ الأراضي المفتوحة صلحا، فتستنزل الأحكام فيها بمقتضى شروط الصلح، ولأجل ذلك أبقى المسلمون الكنائس والمعابد فيما فتحوه صلحا، كما فعل عمر بن الخطاب بكنيسة القيامة بالقدس عندما تركها لأهلها، بل ورفض الصلاة فيها حتى لا يتخذ المسلمون من ذلك سنة بعده في مضايقة المسيحيين أو غيرهم في معابدهم.
ج/ الأراضي المفتوحة غير العامرة، وهي التي مصّر فيها المسلمون الأمصار كالبصرة والكوفة والقيروان، فهذه أيضا لا يجوز إحداث معابد فيها لغير المسلمين لأنها أنشأت خالصة من مزاحمة غيرهم لهم فيها.
وعلى الرغم من أن المدونات الفقهية استقرت في أغلب المذاهب على ما ذكرنا في الأراضي العنوية والجديدة، إلا أن التطبيقات الفقهية والإدارية تنزّلت إلى حد كبير بحيث سُمح للمسيحيين بإصلاح أو استحداث كنائس لهم من أجل الوفاء بالحاجات الروحية لرعايا الدولة الإسلامية.
وعليه فإن الموقف الفقهي في التحويل الأول لآيا صوفيا إلى مسجد يُعبد فيه الله، ينسجم تماما مع مقررات الفقه الإسلامي ومع قواعد القانون الدولي الساري آنذاك، وفكم حول الإسبان عشرات المساجدفي إسبانيا إلى كنائس بعد سفك الدماء المداراة، وكفى بمسجد قرطبة الكبير شاهدا على ذلك، ونظير ذلك مساجد صقيلية وجبل القلال وجزر ميروقة، وفي التاريخ الحديث يكفى استذكار مساجد الجزائر التي حولت إلى كنائس، واصطبلات ومحلات للجنود العابثين.
يبقى التذكير بالموقف الأخلاقي في التحويل الأول أو العودة الثانية للأصل، فالمسلمون لم يهدموا هذا الإنجاز البشري الذي يذكرّهم بخصومهم السابقين، كلا لقد أبقوه وصانوه وزادوا عليه عشرات المحلات والمدارس الوقفية التي كانت تنير الدنيا في علوم الشريعة والفلك والحساب. في حين فإن الرومان قبلهم هدموا كنائس خصومهم اليعاقبة في مصر، وهدموا القدس، ولم يتركوا صومعة لراهب نسطوري أو يعقوبي، أما اليهود فلم يتركوا لهم كنيسا، وقد تفرقوا في الأصقاع يمارسون طقوسهم في خفاء.
أما الموقف الأخلاقي في العودة إلى الأصل أي عودة المكان مسجدا يذكر فيه اسم الله بعدما كان متحفا فهو انتصار للخط الديني، فالمسجد سيبقى مصلى للمؤمنين، وليس مكانا للعابثين، وسيجري عليه ما يجرى على الآثار الإسلامية في اسطمبول، والتي هي مفتوحة الأبواب مشرعة النوافذ أمام كل راغب في الإطلاع على التراث الإنساني، أو الانبهار بجماليات الهندسة الإسلامية التي خلفها سنان باشا،وغير سنان في آخر دار للخلافة الإسلامية.