كلما استهل عام هجري جديد وأطلّ شهره الأول عادت بنا الذكرى إلى ميراث الأنبياء المرسلين عامة، وإلى أولي العزم منهم خاصة، وإلى سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام بالأخص، كيف لا والذي شرع هذه الذكرى المجيدة هو المصطفى ﷺ الذي قدم المدينة بعد مهاجره ووجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فصامه وأمر بصيامه.
ففي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قدم رسول الله ﷺ المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسئلوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى، وبني إسرائيل على فرعون، فنحن نصومه تعظيما له، فقال النبي ﷺ: «نحن أولى بموسى منكم فأمر بصومه» [ البخاري، 4737].
وعن أبي موسى رضي الله عنه، قال: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا ويُلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، فقال رسول الله ﷺ: «فصوموه أنتم»[مسلم، 1131].
ولأجل ذلك سارع المسلمون للصيام، والظاهر أنهم كانوا يهتمون بالأمر، ويجعلونه ظاهرة اجتماعية يُشركون بها الصبيان، فعن الربيّع بنت معوذ ابن عفراء، قالت: أرسل رسول الله ﷺ غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار، التي حول المدينة: «من كان أصبح صائما، فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا، فليتم بقية يومه» فكنا بعد ذلك نصومه، ونصّوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار”[مسلم، 1136]
إن هذا الإرشاد النبوي في إحياء ذكرى انتصار الحق على الباطل مما ينبغي أن يُعضّ عليه بالنواجذ لما فيه دفع النفوس إلى التعلّق بموعود الله الذي وعده عباده الصالحين: {وَلَقَدۡ سَبَقَتۡ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ٱلۡمُرۡسَلِينَ إِنَّهُمۡ لَهُمُ ٱلۡمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ} [الصافات، 171-173]
وهذا اليوم العظيم الذي هو من أيام الله الخالدة المباركة التي يتواصى المسلمون على إحيائه وصيامه ابتغاء الأجر كما قال عليه الصلاة والسلام: « وصيام يوم عاشوراء، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله» [مسلم، 1162]، ولأجل ذلك اعتبر الفقهاء صومه من آكد المندوبات بعد صوم يوم عرفة.
عِبر ودروس يوم عاشوراء
أولا- الوفاء للمرسلين: الوفاء قيمة عظيمة تواصى بها المرسلون عليهم السلام، إذ هم يصدرون من مشكاة واحدة هي مشكاة التوحيد والعبادة لله رب العالمين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات، ليس بيني وبينه نبي» [البخاري، 3442]، وقد مثّل هو عليه الصلاة والسلام قمّة الوفاء عندما سمّى ابنه الذي ولد له في الإسلام بإبراهيم تخيلدا لذكرى جدّه أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وتكنّى عديد الصحابة بأسماء الأنبياء، وتسمّى كثير من طبقة صغار الصحابة بأسماء الأنبياء، والمصادر في كتب الاستيعاب وأسد الغابة والإصابة في معرفة الصحابة وغيرها طافحة بذلك.
ومن هذا الوفاء إحياء عاشوراء، وانتصار موسى عليه الصلاة والسلام والمستضعفين على فرعون والملأ المتجبرين، كما قال تعالى: {وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَٰرِبَهَا ٱلَّتِي بَٰرَكۡنَا فِيهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ بِمَا صَبَرُواْۖ وَدَمَّرۡنَا مَا كَانَ يَصۡنَعُ فِرۡعَوۡنُ وَقَوۡمُهُۥ وَمَا كَانُواْ يَعۡرِشُونَ} [الأعراف، 173].
ثانيا-السنن التاريخية الغالبة: وهي من العِبر اللائحة البيان في قصة موسى وفرعون، وكيف أن سنن الله غلاّبة، وأن قوارعه تنزل بالظالمين الجاحدين الذين توالت عليهم الآيات والبينات، ولكنهم استمرئوا الكفر والطغيان: {فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلۡجَرَادَ وَٱلۡقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ ءَايَٰتٖ مُّفَصَّلَٰتٖ فَٱسۡتَكۡبَرُواْ وَكَانُواْ قَوۡمٗا مُّجۡرِمِينَ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيۡهِمُ ٱلرِّجۡزُ قَالُواْ يَٰمُوسَى ٱدۡعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَۖ لَئِن كَشَفۡتَ عَنَّا ٱلرِّجۡزَ لَنُؤۡمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرۡسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فَلَمَّا كَشَفۡنَا عَنۡهُمُ ٱلرِّجۡزَ إِلَىٰٓ أَجَلٍ هُم بَٰلِغُوهُ إِذَا هُمۡ يَنكُثُونَ} [الأعراف[133-135]
فعلى الرغم من الآيات التسع المتوالية، وعلى الرغم من الإمهال للتوبة والإنابة والعودة، إلا أن الشقاوة غلبت عليهم، فنزل البأس الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، والمستفاد من هذا أن سنن الاستبدال قائمة، وأن الأمم التي لا تنيب عن رعونتها وصلفها آئلة للسقوط إما بقارعة سماوية قاصمة كما هو حال السابقين، أو بالتآكل الداخلي والموات التاريخي كما هو حال المعاصرين.
ثالثا-خطورة الظلم: في هلاك الأمم وتخلفها وبوارها، وهو أمر كر ّعليه القرآن كثيرا ونبّه إليه مرارا، لأن الفساد السياسي يجر الفساد لما تحته من أنظمة إدارية واقتصادية واجتماعية، ولأمر ما كانت قصة موسى في القرآن أكثر القصص تكرارا، وما طوي منها في موضع نُشر في آخر، حتى قالوا: كاد القرآن أن يكون قرآن موسى، لأنه جاهد الظلم في الأرض والجو والبحر في المعاجز المتولية أمام فرعون والملأ المستكبرين، ومما استفدناه من الدروس المنثورة في تفاسير المنار والظلال والتحرير والتنوير، ومن كلام العلامة محمد الحسن الددو في القصص الموسوي أن الفساد والاستبداد السياسي لا يعتضد أمره ولا تقوم شوكته إلا بمتكئات أخرى من الفساد ممثلة على الوِلاء في:
أ-الاستبداد الطاغي: المتمثل في فرعون الذي ادّعى الألوهية، وحصر مقاليد الأمور كلها في يده، فهو الآمر الناهي الذي لا يُرد أمره: ﵟقَالَ فِرۡعَوۡنُ مَآ أُرِيكُمۡ إِلَّا مَآ أَرَىٰ وَمَآ أَهۡدِيكُمۡ إِلَّا سَبِيلَ ٱلرَّشَادِﵞ [غافر، 29]
ب- الجهاز الإداري الفاسد: الممثل في هامان والملأ المحيط بفرعون، والأجهزة التابعة له، والمنفذة لأحكام الطغاة، والمزينة لهم قراراتهم الجائرة: {وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِيُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَيَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَٰهِرُونَ} [الأعراف، 127]
ج-الطغمة العسكرية الصماء: والتي تسارع في الإيغال في الظلم والعسف بالمستضعفين، وانتهاك حرماتهم وأبشارهم وأموالهم، بل وتعتبره طاعة حسنة واجبة: {إِنَّ فِرۡعَوۡنَ وَهَٰمَٰنَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَٰطِـِٔينَ} [القصص، 8].
د- رجال المال الفاسدون: المستفيدون من الأوضاع القائمة، والمهيمنون على الاقتصاد، والمقاومون لكل تغيير يذهب بقدراتهم ومقدراتهم، ويمثلهم في القصة قارون: {إِنَّ قَٰرُونَ كَانَ مِن قَوۡمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيۡهِمۡۖ وَءَاتَيۡنَٰهُ مِنَ ٱلۡكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُۥ لَتَنُوٓأُ بِٱلۡعُصۡبَةِ أُوْلِي ٱلۡقُوَّةِ إِذۡ قَالَ لَهُۥ قَوۡمُهُۥ لَا تَفۡرَحۡۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَرِحِينَ} [القصص، 76].
ه- رجال الدين الطالحون: ويمثلهم في القصة السحرة قبل إيمانهم، وكانوا يمسكون بتلابيب الشعائر الدينية من عبادة وكهانة، وأكل أموال الناس بالباطل، وممالأة الطاغية في عتوه وفساده، ولكن رحمة الله أدركتهم فأنابوا بعدما رأوا البينات.
و- رجال الإعلام المسخرون لأغراض الحاكم، والمزينون لأفعاله المشينة، ويمثلهم في القصة الحاشرون الذين أرسلوا لحشد الناس ليوم الزينة، أو لتأليبهم وتعبئتهم وتجنيدهم وتخويفهم من تغير الأوضاع، ثم جمعهم للقضاء على المؤمنين: {فَأَرۡسَلَ فِرۡعَوۡنُ فِي ٱلۡمَدَآئِنِ حَٰشِرِينَ إِنَّ هَٰٓؤُلَآءِ لَشِرۡذِمَةٞ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمۡ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَٰذِرُونَ} [الشعراء 53-56]
ح-العامة من الشعب الذي فسدت أخلاقه وانتكست قيمه بحكم الضخ الإعلامي والانحراف الديني وسنوات القهر والمذلة، وخطط التفريق والتقسيم: {إِنَّ فِرۡعَوۡنَ عَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَجَعَلَ أَهۡلَهَا شِيَعٗا يَسۡتَضۡعِفُ طَآئِفَةٗ مِّنۡهُمۡ يُذَبِّحُ أَبۡنَآءَهُمۡ وَيَسۡتَحۡيِۦ نِسَآءَهُمۡۚ إِنَّهُۥ كَانَ مِنَ ٱلۡمُفۡسِدِينَ} [القصص، 4] والنتيجة التي انتهى إليها هذا القطيع بعد الأجيال التي تشربّت الخرافة وانطلى عليها الكذب الانسياق والتصديق وعدم الممانعة للطاغية في دعاويه الباطلة: {فَٱسۡتَخَفَّ قَوۡمَهُۥ فَأَطَاعُوهُۚ إِنَّهُمۡ كَانُواْ قَوۡمٗا فَٰسِقِينَ فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا ٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ أَجۡمَعِينَ فَجَعَلۡنَٰهُمۡ سَلَفٗا وَمَثَلٗا لِّلۡأٓخِرِينَ} [الزخرف، 53-56]
إن العبر كثيرة جدا من ذلك السلف الطالح الذي صار مثلات، والقرآن مكنز عظيم لاكتشاف سنن نجاح المجتمعات أو قوانين اندحارها، وعاشوراء مُبينة عن تحقيق الوعد الإلهي بنصر العباد الصالحين، فقد نسي الناس فرعون، بل وأهملوا اللغة التي كان يتكلم بها، ولكنهم ظلوا يلهجون بأسماء الأنبياء ويتعبّدون بشرائعهم، وفضيلة أمة محمد القائمة أنها الأمة الحافظة لميراث الأنبياء جميعا، والذاكرة لمحامدهم، والناشرة لمزاياهم، وفي هذه تأتي ذكرى عاشوراء التي يصومها المسلمون إحياء واقتفاء وائتمارا بقول الله تبارك وتعالى لموسى عليه السلام: {وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا مُوسَىٰ بِـَٔايَٰتِنَآ أَنۡ أَخۡرِجۡ قَوۡمَكَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَذَكِّرۡهُم بِأَيَّىٰمِ ٱللَّهِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّكُلِّ صَبَّارٖ شَكُورٖ} [إبراهيم، 5]
فالصبر والمصابرة والمرابطة والمجاهدة كفيلة بإعادة مثل هذه الأيام المجيدة التالدة الخالدة، وما ذلك على الله بعزيز.