غرور التدين آفة من آفات تصيب الناس بشكل كامل ومنهم الدعاة، والغرور مرادف للكبر، وهو داء وبيل وشر مستطير، وإذا كان الغرور منهيا عنه لسائر البشر، فالنهي عنه بالنسبة للمجتمع الإسلامي بطريق الأولى، والنهي عنه بالنسبة للدعاة بطريق الأحرى. وإذا أردنا أن نعرف الغرور لاستطعنا أن نقول: إنه عجب المرء بنفسه، واتباعه هواه، وتضخم “الأنا” عنده، وحبه لذاته، وغمطه لحقوق الآخرين.
وإن تعجب فعجب وجود هذه الآفة لدى بعض الدعاة، الذين من المفترض -وهم ورثة الأنبياء- أن تنطوي قلوبهم على الطهر والنقاء، والود والصفاء، لا على الكبر والغرور والأنانية، وتورم الذات.
أسباب غرور الدعاة
وهناك أسباب عديدة أدت إلى وجود هذه الظاهرة لدى بعض الدعاة، منها:
أولا: عدم فهم الداعية لطبيعة الدعوة ومنهجها؛ إذ لا يكون الداعية موفقا في دعوته إلا إذا كان عند قول الله سبحانه: “ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين” [فصلت: 33]، والغرور يتنافى مع العمل الصالح.
ثانيا: تسليط بعض وسائل الإعلام الضوء على بعض المتكلمين، وإيجاد مساحات واسعة لهم، فتنتفخ أوداجهم، وتتضخم ذواتهم، ويوهمون أنفسهم أنهم قد أصبحوا دعاة، مع أن فكرهم خواء وأفئدتهم هواء.
ثالثا: عدم وجود المجتمع المثقف الواعي الذي يميز بين الغث والسمين، فيهلل من لا دراية لهم من أبناء المجتمع لبعض هؤلاء المتكلمين، فيصابون بداء الغرور، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
رابعا: التقصير من قبل بعض الجهات القائمة على أمر الدعوة في إعداد الدعاة وتأهيلهم تأهيلا علميا ودعويا، والاكتفاء بإجراء اختبارات قاصرة، ينتج عنها دعاة مغرورون يتزينون بزي الدعاة، لكنهم قد رضوا بالشكل وغفلوا عن المضمون، عنوا بالمظهر ولم يعنوا بالجوهر. ولهذا بالتأكيد له آثاره السلبية على الداعية وعلى الدعوة وعلى المجتمع.
آثار الغرور على الداعية
أما آثار الغرور على الداعية، فيكفي أنه يقف به عند حدود ما علِم، ظنا منه أن له اسما قد أصبح ملء السمع والبصر، ومن هنا فإنه قد لا يُعِد نفسه حين يريد أن يتحدث إلى الناس إعدادا جيدا، ولذا فقد يهرف بما لا يعرف، وربما يزِل، لكن زلة أمثاله خطيرة؛ لأنها تنعكس على المجتمع الذي ينشر دعوته فيه، ولذا فإنه يكون وبالا على الدعوة، وعبئا ثقيلا عليها، يأخذ منها ولا يعطيها، يسيء إليها من حيث يظن أنه محسن.
أثر الغرور على الدعوة والمجتمع
أما آثار غرور التدين لدى بعض الدعاة على الدعوة، فإنه يعد مخالفا لطبيعة منهجها؛ لأن منهج الدعوة الإسلامية ينبثق من قول الله سبحانه مخاطبا حبيبه -ﷺ-: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين} [النحل: 125]. والمغرور لا حكمة عنده ولا موعظة حسنة، فكيف يدعو الناس إلى ما سُلب منه؟!!
أما عن أثر غرور التدين لدى بعض الدعاة على المجتمع، فإنه أثر جد خطير؛ لأنه يؤدي إلى الفصل بين القول والفعل، بين الواقع والسلوك، فينتج مجتمعا مفكك العُرَى، مهلهل النسيج، ضعيف البنيان، لديه خور في العقيدة، ووهن في الدين.
كيف نعالج غرور الدعاة؟
ولكي نعالج هذه الظاهرة لا بد أن نقرر عدة أمور اتفق عليها أئمة الدعاة، ومن أبرزها ما يلي:
أولا: إن من أهم الصفات التي يجب أن يتصف بها الداعية “التواضع”، ومعنى التواضع: ألا يستنكف الإنسان من قبول الحق ولو جاءه ممن هو دونه علما أو سنا أو قدرا، ومن الرجوع إلى الحق بعد أن يتبين له. أما الكبر والغرور بالنفس والإعجاب بها، فيصد عن الحق وإن كان أوضح من فلق الصبح. ولهذا قال رسول الله -ﷺ-: “الكبر بطر الحق وغمط الناس” رواه مسلم.
ولقد كانت أول معصية في هذا العالم دافعها الكبر والغرور، وهي معصية إبليس -عليه لعنة الله- فلقد أُمِر بالسجود تكريما لآدم -عليه السلام- ولكنه أبى واستكبر وكان من الكافرين، وقال معجبا متكبرا متعاليا: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين}.
وبهذا عُلم أن معاصي القلوب أشد خطرا من معاصي الجوارح، وهو الفرق بين معصية إبليس -لعنه الله- ومعصية آدم عليه السلام.
ثانيا: أن الرسول -ﷺ- هو سيد الدعاة وإمام المرسلين، قد جعل هذا الداء الخطير -أعني الكبر والغرور- من المهلكات، فقال ﷺ: “ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه” رواه الطبراني بسند حسن. فإذا اجتمع الهوى المتبع والإعجاب بالنفس ازداد الطين بلة، كما يقولون.
ثالثا: إن المتكبر المغرور إنسان مطموس البصيرة أعياه الغرور عن رؤية الحق؛ لأنه لا يبصر إلا من زاوية واحدة، وهي الزاوية التي يرى فيها ذاته، ولا يرى غيرها، وصدق الله العظيم حيث قال: {كذلك يطبع الله على قلب كل متكبر جبار} [غافر: 35]
ومن هنا بات واجبا على الداعية أن ينزع عنه رداء الكبر؛ لأن الكبرياء لله وحده، وأن يجعل التواضع شعاره، وخاصة التواضع للدين، وهذا ما فصل فيه ابن القيم – رحمه الله- تفصيلا جميلا، حين قال في كتابة القيم (مدارج السالكين): “التواضع للدين هو الانقياد لما جاء به الرسول ﷺ، والاستسلام له والإذعان”.
رابعا: إن الداعية وحده -في غالب الأمر- هو الإدارة والتوجيه والمنهج والكتاب والمعلم، وعليه وحده يقع عبء الدعوة إلى الله مع إخوانه من الدعاة، وهذا يجعل العناية بتكوين الدعاة وإعدادهم الإعداد الكامل أمرا بالغ الأهمية، وإلا أصيبت الدعوة بالخيبة والإخفاق في الداخل والخارج؛ لأن شرطها الأول لم يتحقق، وهو “الداعية المهيأ لحمل الرسالة”.
خامسا: إذا كنا نريد داعية ينتصر في معركته على الجهل والهوى والتسلط والفساد، فلا بد أن يتسلح بأسلحة عديدة لازمة له في الدفاع والهجوم، ومن أبرز أسلحة الداعية ما يلي:
أ- سلاح الإيمان، وبدون هذا السلاح يبطل كل سلاح، وتفشل كل ذخيرة، ونحن نعلم أن الإيمان ليس بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، كما أخبر بذلك رسول الله ﷺ.
ب- سلاح الأخلاق، والأخلاق من لوازم الإيمان الحق وثماره، وقد وصف الله -عز وجل- سيد الدعاة ﷺ بقوله: “وإنك لعلى خلق عظيم” [القلم: 4]، وخاطبه بقوله: “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” [آل عمران: 159].
ج- العلم والثقافة، وهذه هي العدة الفكرية للداعية بجانب العدة الروحية والأخلاقية، فالدعوة عطاء وإنفاق، ومن لم يكن عنده علم أو ثقافة كيف يعطي غيره؟ والداعية المتصف بالغرور كيف يأمر غيره بالتواضع وهو فاقد له؟! إن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن لم يملك النصاب كيف يزكي؟!!.
وهذا يؤكد لنا أن الداعية في حاجة إلى ثقافة شرعية وتاريخية وأدبية ولغوية، وإنسانية، وعلمية وواقعية، إنها ثقافة بمعناها العام الشامل. ومنتفخ الأوداج من الدعاة لا يمكن أن يحصل أي لون من ألوان الثقافة؛ لأن الغرور أعمى بصره وطمس على بصيرته.
الفرق بين الثقة بالنفس والغرور
وإذا كان من مقومات الداعية “الثقة بالنفس”، فكيف نفرق بينها وبين الغرور؟ إن الثقة بالنفس تعني اعتزاز الداعية بمواهبه وبنفسه، من ناحية المظهر ومن ناحية المخبر، وهذا يعينه على نجاح دعوته، أما من يفقد الثقة بنفسه فإنه يتلعثم ويضطرب، وتتبخر منه المعلومات، وتضيع منه التعبيرات؛ لأن مخاطبة الجماهير تحتاج إلى جرأة بالغة تسعفه عند المفاجآت، وتتيح له حل المشكلات.
أما الغرور، فيدل على نفس غير سوية، وإيمان ضعيف، وقلب غير سليم، وحين نفتش في القرآن الكريم نجد أن القلب السليم الخالي من أمراض القلوب – وأهمها: الغل والحقد والحسد والكبر والغرور وحب الذات- هو المقوم الأول من مقومات الداعية، وبه تؤتي الدعوة ثمارها المرجوة ونتائجها المرتقبة.
ولا شك أن على المؤسسات الدينية دورا مهما في معالجة المنحرفين المغرورين من الذين يتصدون للدعوة إلى الله، وذلك من خلال إعادة النظر في البرامج التدريبية والمناهج الدعوية، لتكون أكثر وضوحا، وأتم فائدة، وأبلغ تأثيرا.
د. محمد متولي منصور