تحكي الفترة ما بين الميلاد في برشلونة في (5 يناير 1931) والوفاة في مراكش (4 يونيو 2017) قصة حياة الكاتب والمفكر والأديب والمستعرب الإسباني خوان غويتيسولو ، أحد أهم الأدباء الأسبان، وأحد مناصري الثقافة العربية، والمدافعين عن حقوق المهمشين.
ذاق غويتيسولو الظلم مبكرا، فعرف معنى العدل، حُرم من أمه وهو في السابعة من عمره بعدما قتلت قصفت من طائرات ديكتاتور إسبانيا فرانكو لمدينة برشلونة، فانفتحت روحه على رحابة الإنسانية ومحبة العدل وكراهية الظلم، كانت خياراته إنسانية ومبدئية فكان ضد الاستبداد والهيمنة والظلم والتهميش، هاجم النظام العسكري اليميني لفرانكو فنفي من إسبانيا وصدرت ضده أحكام بالسجن، ناصر الثورة الجزائرية في مقاومتها للاستعمار الفرنسي، وساند القضية الفلسطينية، وندد بحرب الإبادة ضد مسلمي البوسنة.
نصير الإنسان
ارتحل ” غويتيسولو ” إلى باريس عام 1956، بسبب معارضته لنظام فرانكو، وأنتج بعضا من رواياته، التي أزعجت الديكتاتورية العسكرية في إسبانيا، فحظر فرانكو أعماله عام 1963، وحكم عليه بالسجن غيابيا عام 1966، بعد إصداره رواية “علامات هوية” 1966 التي انتقد فيها تردى الأوضاع الاسبانية بسبب ديكتاتورية فرانكو ، وأثناء معيشته في فرنسا رفض سياستها الدموية ضد الشعب الجزائري وتعاطف مع مجاهدي الجزائر، وأخفى بعض المطاردين في بيته بعيدا عن أيدي السلطات الفرنسية، فكان دوما ضد الفاشيات والدكتاتوريات، فجسد نموذجا للمثقف والأديب المتسق مع كلمته وحكاياته، فكانت حياته مثالا ناصعا عميقا لالتزام المبدع والمفكر بأخلاقياته الإنسانية، فكان يستقي مرجعيته من النموذج الإنساني الذي حفظته سير الشخصيات الكبرى التي عبرت التاريخ بإيمان عنيد بقيمة الإنسان ، وحقيقة الإسهام المتكافئ للجماعات في صنع التراكم الحضاري الكوني، ودور صاحب الرأي والموهبة في حفظ ثقافة الضمير المغيب في ظل تضارب المصالح وتعارضها.
كان ” غويتيسولو ” من المؤيدين للقضية الفلسطينية وزار فلسطين إبان انتفاضتها عام 1988 وتعرض لمضايقات الاحتلال الإسرائيلي نظرا لمواقفه المشهورة المؤيدة للفلسطينين، ثم زارها مرة ثانية عام 2005 وشاهد حجم التراجع الذي أصاب القضية الفلسطينية بعد اتفاقيات أوسلو، ووصفها بأنها كانت اتفاقيات استسلامية، وساند قضية المسلمين في البونسة إبان حرب الإبادة الصربية عام 1993، وندد بالصمت الغربي عن تلك الإبادة.
مسجد الفنا
عشق ” غويتيسولو ” مدينة مراكش المغربية، واتخذها له سكنا ومستقرا منذ العام 1996 بعد وفاة زوجته، وكان يرى فيها مدينة تجسد التسامح والانفتاح الحضاري والإنساني بعيدا عن ضغوط توحش المادة، وأثناء معيشته في المغرب استطاع أن يتقن اللهجة المغربية بعد معاناة كبيرة، وكان متداخلا مع سكنها متواصلا معهم، وفي مراكش خاض معركة ثقافية كبيرة عرفت بمعركة ساحة “مسجد الفنا” حيث أراد بعض ذوي النفوذ الاستثمار في العقارات في تلك الساحة النادرة، وإنهاء وجود هذه الساحة النادرة بالمباني الخراسانية، وهذه الساحة بنيت في القرن الثاني عشر الميلادي، في عهد المرابطين حول جامع ابن تاشفين، وكانت ساحة تخرج منها الجيوش، وساحة للتجارة والترفيه والفرجة والفلكلور وليس لها مثيل في العالم، فعارض ” غويتيسولو ” هذا الاعتداء الصارخ على التاريخ، ووقف ضد مشروع إزالتها، ورأى أنها ساحة تحفظ التاريخ الشفهي الإنساني، وانتصر في معركته بعدما اعتبرت اليونسكو ساحة جامع الفنا تراثا شفهيا إنسانيا منذ العام 2002، يجب الحفاظ عليه.
ناكر الجميل
ألف ” غويتيسولو ” أكثر من 50 كتابًا، منها 20 رواية أدبية، وبدأ نشاط الإبداعي مبكرا عندما كان عمره (23) عاما فأصدر عام 1954، أولى رواياته وهي “لعبة الأيدي” ، ومن أعماله الأخرى، “مقبرة” و”من دار السكة إلى مكة” وأشهر كتبه الذي ترجمت للعربية ” إسبانيا في مواجهة التاريخ.. فك العقد” وفي هذا الكتاب رأى أنه يستحيل فهم الثقافة الإسبانية وهضمها بشكل شامل ودقيق من دون استيعاب التراث الإسلامي، ومعرفة الثقافة العربية، ويقول:”وكلما دخلت في هذه الثقافة، تأكد لي بشكل جلي قيمة وأهمية ما ورثناه عن تلك القرون للوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية”، ويؤكد أن هناك حوالي أربعة آلاف كلمة عربية في اللغة الإسبانية بفضل جهود المستعربين الإسبانيين الذين تعلموا العربية وتكلموا بها زمن الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، كشف المحاولات الإسبانية لطمس التاريخ والدور الإسلامي والعربي في الأندلس الذي استمر ثمانية قرون.
وبعد تأليفه للكتاب وصف بأنه “ناكر الجميل” نظرا لتطرقه إلى مواضيع شديدة الحساسية في التاريخ والسياسة الإسبانية، ومنها موضوع المهاجرين المغاربة إلى إسبانيا والذين يعاملون بطريقة مهينة ويعيشون أوضاعا صعبة في المسكن والمعيشة والعمل، وفي كثير من المناطق التي يتنقل فيها هؤلاء المغاربة يجدون لوحات مكتوب عليها “مغاربة لا” “اخرجوا أيها المورو” (إشارة إلى المسلمين)، ورغم هذه الظروف تصر إسبانيا على مقاومة الهجرة إليها، لذا انتقدها ” غويتيسولو ” وانتقد العدل الإسباني المزيف، وسخر من الذين وصفوه بأنه “نكر الجميل” معلنا أن انتماؤه الأول للإنسانية في فضاءها الرحيب.
حصل ” غويتيسولو ” على عدة جوائز أدبية تقديرا لإبداعاته، منها جائزة “أورباليا” التي تمنح ببروكسيل، والتي تعتبر بمثابة نوبل في الآداب الأوروبية، وفي العام 2014 حصل على جائزة “سيرفانتيس” الادبية من ملك إسبانيا، وأكد وهو يتسلم الجائزة من ملك إسبانيا أنه يهدي الجائزة إلى أهل مراكش، تلك المدينة الحمراء التي احتلت حيزا مهما في أدبه وإبداعاته الروائية، وبالخصوص روايته الشهيرة “مقبرة” أو في سيرته الذاتية “منطقة مسيجة محظورة”.