تسيطر على الصادق النيهوم في كتابه (صوت الناس..محنة ثقافة مزورة) فكرة مركزية هي أن الانحراف الذي أصاب فكر وممارسات الأمة منذ مقتل عثمان تلخص في تغييب (الإدارة الجماعية)، انتقلت الأمة من الحكم الراشد إلى الملك العضوض، ولكن على جميع الصعد الفكرية والاجتماعية.
غياب الشرع الجماعي
إن تأكيد الإسلام على مركزية الإدارة الجماعية في منهاجه يعكس التعبير بـ”أولو الأمر” وليس “أولياء الأمور”، إن أولياء مفردها ولي، ولكن :أولوأ” لا مفرد له من لفظه، فالأمر للجماعة كلها، وليس لفرد واحد ولا لممثلين اختاروا أنفسهم لها ولم تخترهم بإرادتها.
إلا أن الانحراف الذي وقع بعد تولي معاوية للحكم، همَّش دور الأمة في المسؤولية عن تدبير شؤونها وأعطى كل مسؤولياتها لحاكم فرد، إن هذا الانحراف أفرغ كل التعاليم الإسلامية من مضمونها، ففقدت الأمة بذلك حيويتها ورسالتها الحضارية.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معناه إداريا أن يشارك المسلم في صياغة القوانين، لأن القوانين هي صاحبة الأمر والنهي، وهي وحدها مصدر المعروف والمنكر معا.
لا حدود في غياب الجماعة
تطبيق حدود الشرع فريضة تعني أن يكفل المسلم أولا، نزاهة التحقيق، ونزاهة القضاء، وهي كفالة لا يستطيع المسلم أن يتعهد بها جديا، إلا في مؤتمر له ـ على الأقل ـ سلطة أعلى من “سلط البوليس”.
في غياب الشرع الجماعي يصبح تطبيق الشريعة جريمة لأنه يتحول من نظام لتحقيق العدالة إلى وسيلة لحماية أملاك وامتيازات فرد أو ثلة مسيطرة، كما تصبح الدعوة لتطبيقها دعوة سياسية لا علاقة لها بالدين، هدفها أن تعلق في عنق المواطن مسؤولية ما يفعله جهاز القضاء في الدولة، من دون أن يكون له حق في الإشراف على سير التحقيق والمحاكمة.
في حالة مماثلة، كان القضاة المسلمون يصلبون صغار اللصوص من طراز (سعدون الشاطر) في أسواق بغداد، عندما كان الخليفة المعتصم، ينهب مال الناس بكلتا يديه، لكي يدفع رواتب جيش كامل من حراسه الأتراك، أما الخليفة المستكفي، فقد جمع في خزانته ـ كما قال المقريزي ـ “63 ألف قطعة من الأثواب الخراسانية، بالإضافة إلى 13 ألف عمامة، و8 آلاف من البطائن التي تحمل من كرمان في أنابيب القصب، و18 ألف من الأبسطة الأرمنية”.
صوت الناس هل هو مصدر للتشريع؟
يطرح النيهوم ـ وهو يفكك بنية الانحراف الذي أصاب الأمة ـ فكرة جريئة، فيسوق قول الشافعي ـ وغيره أيضا ـ إن مصادر التشريع أربعة، هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس، وأنه ربط الإجماع المعتبر بالصحابة، ويستشكل لماذا لا يكون “صوت الناس” أيضا مصدرا للتشريع؟
يرى النيهوم أن الأمة وقعت في خطإ فكري لم تكتشفه إلا حديثا حين غزتها الديمقراطيات الحديثة، فإذا هي لا تملك ميراثا من الإدارة الجماعية، وإذا بصوت الناس يبدو خافتا عبر تاريخ الأمة الصاخب بالأحداث الكبيرة.
ورغم حدة خطاب النيهوم تجاه التشريع الإسلامي إلا أن التراث الفقهي ـ في أغلبه ـ كان يؤسس لسلطة الفرد وحكمه بدل حكم الجماعة والشورى التي أثبتها القرآن آية خالدة.
الإيديولوجيا.. خداع اللغة المحرَّفة
تملك الإيديولجيا تقنيات عالية للإقناع بالزيف، فهي تستخدم لغة الناس من أن تلمس واقعهم، هي لا تغير المفردات ولكنها تحرف المعاني التي تعنيها تلك المفردات، المؤسف أن الوعاظ وسذَّج الفقهاء هم من يتولى غالبا عملية الإفراغ والشحن الدلالي هذه.
غاب الشرع الجماعي فأصبحت كل فضيلة سنها شرع الإسلام الجماعي بمثابة مسؤولية مواطن واحد، أصبحت الأمانة تعني إعادة الحق إلى أصحابه ولكنه لا يدخل فيها حق الطفل والمراهق والعجوز من بنود الميزانية، وأصبح الصدق يعني أن يلتزم المواطن الوحيد بعدم الكذب، لا أن يكف المجتمع بأسره عن الكذب العلني في صحفه وإذاعاته ومنابره.
أين ذهب يوم الجمعة؟
وظيفة يوم الجمعة في القرآن مختلفة عن وظيفته في الواقع، نحن نعتبره يوما للصلاة والدعاء، للتزكية، ولكن النيهوم يرى أن يوم الجمعة كان ابتكارا إسلاميا غير مسبوق لتجسيد الإدارة الجماعية وتحقيق رقابة الأمة أسبوعيا على ما يستجد في حدودها، اجتماع يحضره كل الناس بمن فيهم الخليفة.
ويقدم النيهوم قراءة في سورة الجمعة فيرى أن حصة المسؤولية العامة والهم المشترك بين أتباع كل الديانات في الدولة الإسلامية أخذت أغلب السورة وتحدثت آية أو آيتان عن الصلاة.
ولكن ـ حسب ما يرى ـ يوم الجمعة انحرف عن مساره وأصبح يوما للصلاة فقط، فذهب الجامع وبقي المسجد.
وهو يفرق بين الاثنين تفريقا كاملا، يقول:”الجامع ليس هو المسجد، وليس مدرسة لتلقين علوم الدين، بل جهاز إداري مسؤول عن تسيير الإدارة جماعيا”، هوية يوم الجمعة الأصلية مليئة بالعمل الجماعي، وليس فقط شعيرة الصلاة، يخطب فيها داعية محترف يكسب قوته من مسايرة توجهات وزارات الأوقاف.
وقد كتب فصلا بعنوان:”أين ذهب الجامع” الذي يرى أن غيابه كان بداية غياب الشرع الجماعي، حيث كان الجامع في عصر النبوة وفترة الخلافة الراشدية مثابة للناس يقررون فيها أخطر ما يهم الأمة من سلم وحرب واجتماع وتدبير عيش، ويسمعون النصح والمواعظ.