في متابعتنا لما قبيل عودة آيا صوفيا مسجدا يُعبد فيه الله وتُعظم فيه شعائره، كانت المواقف متمايزة بين العالمين المسيحيين الكاثوليكي والأرثوذكسي، فبينما كان الأخير محنقا، كان الأول أقلَ توترا.

ومرجع ذاك إلى الخصومة المتبادلة بين الطرفين، خصومة تراوحت بين التبديع والتكفير وتبادل أحكام الهرطقة والتجديف من جهة أولى، والحروب الدينية الدامية من جهة أخرى.

 فمنذ التاريخ المسيحي المبكر كانت الكنائس لا تنفكّ عن الانشقاق والتناحر، ولم تستطع المجامع المسكونية رأب صدعها، بل كلما انقعد مجمع طُردت مجموعة، وحُكم عليها بالكفر والحرمان، وعرفنا عشرات النحل والفرق التي كُفرت، ومئات الآباء والقساوسة الذين حوكموا وطُرح عليهم الحرمان، وخاصة مع اعتناق الإمبراطور قسطنطين للنصرانية.

    يقول “بيوري: “لقد قرّر قسطنطين الأكبر أن يعتنق المسيحية، وكان هذا القرار الخطير فاتحة لألف عام عاشها الفكر في الأغلال، واستبعد العقل استبعادا، وتوقفت فيها حركة العلم والعرفان، ويؤكّد أن المسيحية اتّخذت مبدأ التسامح حين كانت تعوزها السلطة، وحينما أصبح دينهم هو الدّين الغالب على أمره وصار مُدعّما بسلطان الدولة هُجر مبدأ التسامح هجرانا” (1)   

  وقبل هذا الوصف بقرون، قال القاضي عبد الجبار المعتزلي في معرض نقده لطرائق تقرير العقائد المسيحية التي اعتضد فيها الديني بالسلطوي: “وليس سيف حُمل بباطل في جميع الأزمان مثل سيف النصرانية” (2)

هذا السيف المصلت هو ما كان منصوبا في كل مجمع، فلم  تكن المناقشات العقدية حرة، بل كانت تحت أعين الرقيب الذي يناصر هذا ويقمع هذا تبعا لمصالح السياسة الموقوتة.

ففي مجمع نيقية (325م) طُرد الأريسيون، وفي مجمع القسطنطينية الأول (381م) طُرد المقدونيون، وفي مجمع مجمع أفسس الأول (431م) طُرد النسطوريون، والمجمع  الأخطر للشقاق هو  مجمع خلقدونية (451م) الذي خلّف الصراع الدائم بين الملكانية ( الكاثوليك) واليعاقبة ( الأرثوذكس) ، فبدأت حقبة الاضطهاد ضدهم من قبل الدولة الرومانية، وبه يؤرخ الأقباط تاريخهم فيما عرف بعهد الشهداء قتلى الجبروت الملكاني.

   واستمر الصراع على أشدّه بين الكنيستين، ولم تتخلّص الكنيسة القبطية من أغلال أنصار مجمع خلقدونية إلا بعد دخول الإسلام إلى مصر. حيث أن رأس الكنيسة الأسقف “بنيامين” ظلّ مختفيا طوال ثلاثين سنة، وجيء بأخيه فوضع على منصّة أوقدت تحتها المشاعل، وسُلّطت نارها على بدنه، فأخذ يحترق حتى سال دمه من جانبيه على الأرض، ولما لم يتزحزح عن عقيدته خُلعت أسنانه، ثم قاده الجلادون إلى الشاطئ وعرضوا عليه أن يترك دينه ويخضع لقرارات المجمع، فأبى فرموه في البحر، وابتلعته أمواج اليمّ ” (3).

لكن الشقاق الأخير هو الذي حصل في المجمع الثامن(869م)، بسبب الخلاف في عقيدة الروح القدس ثالث الأقانيم، أهو منبثق من الأب فقط كما هو رأي الأرثدوكس؟ أم من الأب والابن معا كما يقول الكاثوليك؟ فلعن بعضهم بعضا، وكفّر بعضهم بعضا، وطرد كل الأخر من حظيرة المسيحية.

 وبهذا الانشقاق انتهى عهد المجامع المسكونية الشاملة، وانفصلت الكنيستان وتباعدتا، ووصل الأمر إلى تبادل قرارات الحرمان في بعض الأمور الفقهية مثل حلق اللحى، وارتداء القميص والخاتم للرهبان، واستعمال الفطير في العشاء الرباني بدل الخبز، واستمر الجدل متصاعدا بين الطائفتين الكبيرتين إلى أن حصل الانشقاق التام يوم (16 تموز 1054م) (4)

وتبعا لصيرورة المذهبين الكاثوليكي والأرثذوكسي إلى دينين مختلفين لا يصلي أتباعهما وراء الآخر، ولا يدفن في مقابره، ويحرّم الزواج منه، تباعد الولاء السياسي، واشتعلت الحروب الدينية في الحدود الملتهبة في البلقان، بل وطال المعابد الأرثوذكسية، ونالت النار الصليبية المسلمين والروم الشرقيين على السواء، فعندما دخل  الصليبيون بيت المقدس في الحملة الأولى (1099م):”حرُّم فيها المذهب الأرثدوكسي الشرقي، وفرّ البطريق اليوناني إلى قبرص، وقبلت أبرشيات المملكة الجديدة الشعائر اللاتينية، والمطران الإيطالي والحكم البابوي” (5).

 ولم تسلم القسطنطينية العاصمة الرمزية للكنيسة الشرقية من هذا، فعندما دخلها الصليبيون في الحملة الرابعة دمّروا ما فيها، ولم يراعوا حرمة علماني أو كهنوتي، ونهبوا الكنائس والأديرة، ومنها كنيسة آيا صوفيا، ووصلت أصداء هذه الحملة إلى ابن الأثير الذي ذكرها في أحداث سنة [600هـ-1204] حيث قال: “فأصبح الروم كلهم ما بين قتيل أو فقير لا يملك شيئا، ودخل جماعة من أعيان الروم الكنيسة العظمى بأيديهم الإنجيل والصليب يتوسّلون بها إلى الفرنج ليبُقوا عليهم، فلم يلتفتوا إليهم، وقتلوهم أجمعين، ونهبوا الكنيسة” (6)

واستمر الشنآن، ونتج عه تعطل مشاريع الحملات الصليبية القادمة،  وأدى تعثر الإمدادات عن طريق البر البيزنطي إلى انكماش الحروب الصليبية واقتصارها على القرصنة البحرية، وأدى في مقابل ذلك إلى صعود القوة العثمانية التي ستبتلع الإمبراطورية البيزنطية الهرمة.

إن استذكار هذه الوقائع التاريخية والمرسومة بقوة في الذاكرة المسيحية،  والتي ستكون مقدمة للحروب الدينية التي ستشهدها أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، كل هذا يحيلنا إلى مزيد التدبر لما ورد من آيات في هذا الشنآن النصراني، والذي هو محتوم الوقوع نتيجة الانحراف عن الهدي السماوي، والخوض في النصوص الوحيانية تحريفا وتبديلا واختراعا وابتدعا، وصدق الله : ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [ المائدة، 13-14].


المراجع:

1- بيوري جون: حرية الفكر، مصر، لجنة القاهرة للتأليف والنشر، ص 35.

2- القاضي عبد الجبار:تثبيت دلائل النبوة، ط1، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، ج1 ص 158.

3- الغزالي محمد: التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام، ط3، القاهرة، دار نهضة مصر، 2003،ص 97 .

4- زيتون عادل: العلاقات الكنسية والسياسية بين الشرق البيزنطي والغرب اللاتيني في العصور الوسطى، ط1، دمشق، دار دمشق، 1980، ص 342.

5- ديورانت:  قصة الحضارة، ط1، بيروت، دار الجيل، 1998،ج 16 ص 26.

6- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، ط6، بيروت، دار الكتاب العربي، ج 9 ص 264 .