من يتلو كتاب الله أو يسمعه يتلى ويتدبره لا يملك إلا أن يقول كما قالت الجن حين سمعته: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}، وافتح أي صفحة من المصحف واقرأ بتؤدة وتدبر لتقف على شاهد مما أقول.

به فنون المعاني قد جمعن فما  *  تفتر من عجب إلا إلى عجب.

كان الإمام في صلاة التروايح يتلو هذه الآية من سورة القصص: {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} القصص-7، فكاد قلبي أن يطير مثلما حصل لجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: ﴿  أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ [الطور:35]. قال جبير: كاد قلبي أن يطير ولم يكن قد أسلم يومئذ.

قال ابن حجر في الفتح 8/603: ” قال الخطابي: كأنه انزعج عند سماع هذه الآية لفهمه معناها ومعرفته بما تضمنته، ففهم الحجة فاستدركها بلطيف طبعه، … حتى كاد قلبه يطير، ومال إلى الإسلام”.

{فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي…} الآية، أي إِذا خِفْتِ عَلَيْهِ أن يشعر به عيون فرعون وحاشيته، فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ، وَلا تَخافِي عليه ضيعة ولا شدة، وَلا تحزَني لفراقه، قال الجنيد: “إذا خفت حفظه بواسطة، فسلميه إلينا بإلقائه في البحر، واقطعي عنه شفقتك وتدبيرك”.

يقول الزمخشري 3/393 “فإن قلت: ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟

قلت: أما الأوّل فالخوف عليه من القتل؛ لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه.

وأما الثاني، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان، وغير ذلك من المخاوف”.

 

” وهات أيَّة امرأة وقل لها: إن كنت خائفة على ابنك من أمر ما فارميه في البحر، من المؤكد أنها لن تصدقك، بل ستسخر منك؛ لأنها ستتساءل: كيف أنجيه من موت مظنون إلى موت محقق؟. وهذا هو الأمر الطبيعي، لكن نحن هنا أمام وارد من الله إلى خلق الله، ووارد الله لا يصادمه شك، إذن فالخاطر والإِلهام إذا جاء من الله لا يزاحمهما شيء قط. ولا يطلب الإِنسان عليه دليلاً لأن نفسه قد اطمأنت إليه؛ لذلك ألقت أم موسى برضيعها في البحر.

ويقدّر الله أنها أم فيقول: {وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ} ولن يرده إليها فقط، بل سيوكل إليه أمراً جللاً. {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}.

وكأن الحق سبحانه يوضح لأم موسى أن ابنها لن يعيش من أجلها فقط، بل إن له مهمة أخرى في الحياة فسيكون رسولاً من الله. فإذا لم تكن السماء ستحافظ عليه لأجل خاطر الأم وعواطفها، فإن السماء ستحفظه لأن له مهمة أساسية {وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين}”. هكذا يتدبر الشعراوي رحمه الله تعالى هذه الآية ويتحفنا بهذه الخواطر حولها.

وقوله تعالى في الآية:{ ولا تخافي ولا تحزني} يدل على تغاير بين الخوف والحزن فالخوف: غم يحصل بسبب توقع مكروه يحدث في المستقبل، والحزن: غم يحدث بسبب مكروه قد حصل والمعنى: لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم، فلن يهلك فيه، ولا تحزني على فراقه إنا رادوه إليك عن قريب على وجه تكون به نجاته، ولتكوني أنت المرضعة له وجاعلوه من المرسلين الذين نصطفيهم ونختارهم لحمل رسالتنا إلى العباد.

ومن اللطائف التي تذكر حول هذه الآية: أن الأصمعي سمع جارية تنشد شعرا:

أستغفر الله لذنبي كلّه … قتلت إنسانا بغير حلّه

مثل غزال ناعم في دلّه … وانتصف الليل ولم أصلّه

فقال لها الأصمعي: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت له: ويحك! أفصاحة بعد قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ، فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي، إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وبشارتين … !

والأمران هما: أرضعيه، وألقيه.

والنهيان: ولا تخافي، ولا تحزني.

والبشارتان: إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين.

والعجب كل العجب أن هنالك آية ثانية في سورة طه جاءت بوصف الحدث لحظة وقوعه قد يظن القارئ لها أول وهلة أن هنالك تكرارا، وليس الأمر كذلك، فقصة موسى جاءت مبثوثة في كتاب الله في عشر مواضع، لكن ما تقف عليه في سورة لا تكرار فيه لما وقفت عليه في غيرها، فهذه الآية مثلا في سورة القصص تدل: على أن الله سبحانه وتعالى يُعِدّ أم موسى إعدادا إيمانيا للحدث، وليس فيها تفاصيل عملية الطرح، ولا سرعة تلاحق الأحداث،  بل نجد ذلك في آية سورة طه: { أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} طه -39

يقول الشعراوي في خواطره:” هذا كلام يناسب لحظة وقوع الحدث، فالآية الأولى بينت لنا أن أم موسى أرضعته قبل أن تضعه في التابوت، وأنها ستلقيه في اليم عندما يحدث خطر وتخاف عليه من القتل، وفيه تطمين لها ألا تخاف ولا تحزن؛ لأن الله منجيه. وفيها بشارتان: أن الله سيرده لأمه، وأن الله قد اختاره رسولا.

نأتي إلى الآية الثانية التي تكمل لنا هذه اللقطة فتقول: {اقذفيه فِي التابوت} هنا نعرف أن أم موسى ستلقيه في تابوت، وهو ما لم يذكر في آية القصص. ثم بعد ذلك نعلم أن الله سبحانه وتعالى أصدر أمره إلى الماء أن يلقي التابوت إلى الساحل. وهذا ما لم يرد في آية القصص أيضا، ونعرف أيضا أن الذي سيأخذه وهو فرعون، ستكون بينهما عداوة متبادلة، وهكذا نرى أن آيتي القصة، يكمل بعضهما بعضا، وليس هناك تكرار…

فكلمة «اقذفيه» تدل على السرعة، وتلقّى «اليم» الأمر من الله بأن موسى عندما يُلقى فيه، فلا بد أن يلقيه إلى الساحل. إنها أوامر للمُسخّر من المخلوقات التي لا تعصى. لكن كيف تكون أوامر الحق لعدو لله؟ (ذلك أن الله سيحول بين فرعون وبين قتل موسى وسيربي موسى ببيت فرعون فكيف تكون أوامر الله لعدوه؟) إن الله يدخلها كخاطر مُلحّ في رأس فرعون ليُنفّذ مُراد الله. إن امرأة فرعون تقول له ما جاء في قوله تعالى: {وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] لقد دخل أمر الله كخاطر، والتقطه آل فرعون لا ليكون قرة عين لامرأة فرعون، ولكن لأمر مختلف أراده الله.

فهل ساعة الالتقاط كان في بالهم أن يكون موسى عدوّاً وقرة عين؟ إنها «لام العاقبة» التي تتضح في قوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} . فالإنسان يكون في مُراده شيء، ولكن القدرة الأعلى من الإنسان – وهو الله – تريد شيئاً آخر.

الإنسان في تخطيطه أن يقوم بالعملية لكذا، ولكن القوة الأعلى من الإنسان تريد العملية لهدفٍ آخر، وهي التي أوحت للإنسان أن يقوم بهذه العملية. ويتجلّى ذلك بوضوح في العلة لالتقاط آل فرعون لموسى. كان فرعون يريده قرّة عين له، ولكن الله أراده أن يكون عدوّاً لفرعون. وفي هذا المثال توضيح شامل للفرق بين «لام العاقبة» و «لام الإرادة والتعليل» وعندما نرى أحداثا مثل هذه الأحداث فلا نقول: «هذا مراد الله» ولكن فلنقل: العاقبة فيما فعلوا وأحدثوا خلاف ما خططوا”.

هذا بعض ما يتجلى من تدبر هذه الآية وإن كان وقعها على النفس حين تتلى أو تقرأ وقعا لا يمكن التعبير عنه، وكيف لا وهو كلام الله جل! ومن له أمعن بالتأمل* بان له كل خفي وجلي.

فلنقرأه ولنتدبره، وإذا قرئ علينا في صلاة التراويح أو غيرها فلنستمع له ولننصت في خشوع وخضوع؛ فإن الله يخاطبنا، ولو استحضر المرء ذلك لأورثه أنسا في قلبه، ولوجد من النعيم واللذة والحبور ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان.