تشغل مجلة المنار مكانة متميزة بين الدوريات الإسلامية لا تدانيها في ذلك أي مجلة أخرى سابقة أو لاحقة؛ فطيلة ثمانية وثلاثون عاما (1898-1935 م) هي عمر المجلة كانت هي: الأوسع انتشارا وتأثيرا في العالم الإسلامي، والأكثر عمقا في تناول الشأن الإسلامي، والأقدر على تجديد الفكر الإسلامي وتنقيته مما لحق به، وسأعرض هنا لبعض جوانب تجديدها في الفكر الإسلامي، وعلى الأخص التجديد الفقهي من خلال تناول فتاوى المنار ومنهجها الإفتائي.
شرع السيد رشيد رضا في نشر الفتاوى بالمنار منذ المجلد الأول بصورة غير منتظمة تحت عنوان “سؤال وجواب” ثم ” سؤال وفتوى” ثم “الأسئلة والأجوبة الدينية” إلى أن استقر على تسميتها “فتاوى المنار” منذ المجلد السادس الصادر عام 1903 مع إفراد باب ثابت لها ضمن المجلة.
وقد ظل يجيب عنها حتى وفاته عام 1935، واجتذب الباب عدد كبير من القراء وطار صيته في الأمصار فوردت إليه التساؤلات من مختلف أقطار العالم من روسيا والهند وسنغافورة وجاوة والأرجنتين والبوسنة والجبل الأسود فضلا عن البلدان العربية وهو الأمر الذي أكسبها مسحة عالمية وجعلها سجلا حيا لتساؤلات المسلمين في الثلث الأول من القرن.
ومما أضفى عليها أهمية أن الأسئلة الواردة إليها لم تكن تتعلق بالمجال الخاص وإنما دار معظمها حول المجال العام أو بعبارة أدق بشأن الأمة فهي تتساءل عن: ماهية الموقف الإسلامي من منتجات الحداثة كالطب والفونوغراف والراديو، وكيفية التعامل مع المستجدات السياسية كالاحتلال الغربي وتجنس المسلم بجنسية دولة غير مسلمة، وكيفية تأويل المفاهيم الإسلامية في ظل اختلاف السياقات كالجهاد ودار الحرب، وما إلى ذلك من تساؤلات لم تزل قائمة وكانت المنار أول من تصدى لبحثها.
وقد عكف الباحث السوري صلاح الدين المنجد على جمع هذه الفتاوى ونشرها عام 1970 في ستة مجلدات وقد بلغ مجموعها (1066) فتوى*، وراعى في نشرها وضع رقم عام لكل فتوى، ورتبها وفقا لتاريخ نشرها بالمنار مع الإشارة في الهامش إلى رقم المجلد والصفحة، وذيل كل مجلد بفهرس يوضح موضوع كل فتوى بدقة، وعلق على بعضها تعليقات خفيفة.
منهجية الإفتاء
وتختص فتاوى المنار بمنهج إفتائي ميزها عن غيرها من مجموعات الإفتاء السابقة عليها، حتى أننا يمكن أن نعدها بهذا المنهج حدا فاصلا بين مرحلة الإفتاء الكلاسيكي والإفتاء الحديث، ومن ملامح هذا المنهج.
– اللامذهبية الفقهية، ذلك أن مجموعات الإفتاء السابقة كانت عادة تتبع مذهب فقهي بعينه وتفتي وفقا له- باستثناء عدد محدود للغاية كفتاوى الشوكاني– أما المنار فلم تقتصر على مذهب بعينه وانفتحت على المذاهب الأربعة، وقد علل السيد رشيد رضا ذلك بأنه مدعاة لتوحيد الأمة بكافة أجناسها ومذاهبها، وقد تأثر بهذا المنهج كثير من المفتين المعاصرين كالشيخ القرضاوي والدكتور وهبة الزحيلي وغيرهما.
– الخروج على الصيغ الكلاسيكية للفتوى، كان تحرير الفتاوى يخضع لصيغ وقواعد ثابتة بينتها المصنفات في “أدب الفتوى” وسار على نهجها المفتين جيلا بعد جيل، ومن هذه القواعد: استهلال السؤال بلفظ سئل محاطا بين قوسين والإجابة بلفظ أجاب بذات الكيفية، واختتامها بلفظ “والله تعالى أعلم”، وحذف اسم السائل وبياناته حتى تصبح الفتوى نمطا معياريا قابلا للتطبيق في حالات مماثلة إلى آخر هذه الصيغ المتوارثة، أما صاحب المنار فقد تحرر من هذه القوالب جميعا بل ربما خالفها فقد اشترط على المستفتي ذكر اسمه وعمله وموطنه، والتزم منذ المجلد الثاني عشر بإيراد نص سؤال الفتوى كاملا دون تعديل إلا في حالة وجود أغلاط إملائية به، كما قام بترقيم الفتاوى ترقيما تسلسليا داخل كل مجلد، ووضع عنوانا لكل فتوى.
– الانتقال بالفتوى من الخصوص إلى العموم، كانت مجموعات الإفتاء السابقة على المنار تستهدف بشكل أساسي مخاطبة القضاة ودارسي الشريعة إذ هم المعنيين بتطبيق الحكم الشرعي والمعنيين بالتعرف على الآراء المفتى به داخل كل مذهب، وهو ما جعل منها كتب تخصصية لا يستطيع القارئ العادي -العامي وفق الاصطلاح الفقهي- مطالعتها والإفادة منها، أما المنار فقد توجه بخطابه إلى الفئات العريضة من المثقفين المسلمين الذين يرغبون في التعرف على أحكام دينهم ولأجل هذا استخدم لغة يسيرة يسهل استيعابها فلم يعد النص الافتائي مستغلقا على الأفهام ولم يعد حكرا على الشرعيين.
– النزوع الاجتهادي، وهو أهم ما يسم المنار لأن الاعتقاد السائد إذ ذاك كان يجنح إلى التقليد بذرائع متعددة منها: خلو الزمان من المجتهد، وكون الأقدمين أقدر على الفهم والاستباط من اللاحقين، وأن بنية العلوم الدينية قد اكتمل بناؤها وليس ثمة مجال للاجتهاد فيها، ولذلك كان الاجتهاد أحد المفاهيم المستهجنة من قبل المفتين ولم يدعيه أحدهم – رغم أنهم كانوا يمارسونه فعليا في بعض الأحيان-، وقد خالف صاحب المنار ذلك فأفتى استنادا إلى القرآن ثم الحديث الشريف والسنة الصحيحة ثم العقل، أما عن منهجه في الأمور المستحدثة التي تكن معروفة في العصور الأولى فقد كان يراعي فيها: نص الشارع وحكمة التشريع، والقواعد العامة لاسيما القطعي منها كاليسر ودفع الحرج والعنت ، ونفي الضرر والضرار، وجلب المصالح ورفع المفاسد.
نماذج من اجتهادات المنار
وقد أفضى إعمال هذا المنهج إلى ممارسة الاجتهاد فعليا، وتذخر المنار بنماذج عديدة للاجتهاد استطاعت أن تكرس من خلالها لمشروعية الاجتهاد المعاصر؛ ومنها إجازة السيد رشيد رضا التلقيح ضد الجدري وغيره من الأمراض، وذكر في ذلك أنه لا وجه للتحريم إذ أن التلقيح ضرب من ضروب الوقاية الثابتة بالتجربة الصحيحة المتواترة، وتوقي المضار واجب شرعا بالإجماع، فما تعين سببا للوقاية وجب الأخذ به عند ظن التعرض للضرر، وذهب إلى أن هذه المسائل وأشباهها ينبغي أن يرجع فيها إلى: قاعدة وجوب دفع المضار وجلب المنافع، وقاعدة تعارض المعلوم والموهوم، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين.
ومنها فتواه في جواز مشاركة المسلم في حروب دولته غير المسلمة واصفا إياها بأنها ليست معصية لله تعالى ولا ممنوعة شرعا، وهو يبين دواعي الجواز بأن طاعته لدولته تدفع عن إخوانه من رعيتها شيئا من ظلمها وشرها إذا كانت استبدادية ظالمة وتساويهم بسائر أهل الحقوق، وبأن العلوم والأعمال الحربية من أهم عناصر الحياة الاجتماعية في البشر، فإذا حرم منها شعب من الشعوب ضعفت حياته، والضعيف لا يكون إلا ذليلا مهاما.
ومنها إفتاؤه بعدم وجوب الهجرة على شعوب البلدان المسلمة التي خضعت للاحتلال الأجنبي التي أفتى بوجوبها عدد من العلماء، وقد خالفهم السيد رشيد في ذلك قائلا: أن الصواب أنه لا تجب الهجرة وجوبا عينيا على من كان متمكنا من إقامة دينه، آمنا من الفتنة، وهي الإكراه على ترك الدين أو المنع من إقامة شعائره والعمل به.
تعداد الفتاوى المنشور في مجلة المنار يفوق هذا العدد لكن الدكتور المنجد شرع في جمع الفتاوى منذ المجلد السادس ولم يضف إليها الفتاوى التي نشرت في المجلدات الخمس الأولى من المنار.